توابع ما بعد الزلازل!

TT

من يتصور أنه يمكن أن تحدث ثلاث ثورات في بلد، ويقضي الناس في الشوارع والميادين شهورا وأعواما، وتتواتر أشكال السلطة من مبارك إلى طنطاوي إلى مرسي إلى عدلي منصور، ويعيش الناس من مرحلة انتقالية أولى (11 فبراير/ شباط، 2011 إلى 30 يونيو/ حزيران، 2012) إلى مرحلة انتقالية ثانية (30 يونيو 2012 إلى 3 يوليو/ تموز 2013) إلى مرحلة انتقالية ثالثة (3 يوليو 2013 إلى موعد انتخاب مجلس النواب) إلى المشاركة في 6 استحقاقات انتخابية، ويشهدون تعديلات دستورية، وإعلانات دستورية تكميلية، ودستورين (2012 و2014)؛ ثم بعد ذلك يمكن أن تُمارَس الديمقراطية على الطريقة السويسرية أو الإنجليزية أو الهولندية أو حتى الهندية، فإن لديه خللا ما في التفكير.

الانتخابات المصرية لم تجر في ظروف طبيعية بأي معنى، ولا يمكن حدوث الزلازل دون أن تكون لها توابعها، وزادت على ذلك حالة الارتباك التاريخي للإطاحة بنظام عاش ستة عقود في سلطوية من نوع أو آخر، ونظام أتى بسلطة جماعة سرية فاشية مرتبطة برباط لا ينفصم بجماعات إرهابية، وكذلك الإرهاب الذي تم تسجيل بداياته بالصوت والصورة من على منصات ميداني رابعة العدوية في القاهرة والنهضة في الجيزة، وحتى لحظة الانتخاب.. كل ذلك لا يجعل انتخاب المشير السيسي منطقيا فقط، وإنما باكتساح أيضا.

في مثل هذه الحالات فإن الرغبة في الأمن والأمان والبقاء تفوق كل احتياجات الإنسان الأخرى، وتجد الطبقة الوسطى، وحزب «الكنبة»، والأغلبية الساحقة من الشعب المصري، كما حدث مع شعوب أخرى، أن ملاذها مع شخصية ليست فقط عسكرية، وبات لها سجل في مقاومة الإرهاب، وإنما أيضا لديها برنامج يبدو معقولا لبقية المصريين. الفكرة هكذا ليست جلية لعامة الشعب المصري فقط، وإنما واضحة حتى للنخبة السياسية، وظهرت في لجنة الخمسين التي وضعت الدستور، ونصت فيه على فترة انتقالية لمدة ثماني سنوات لها أحكام خاصة بالقوات المسلحة سوف تكون بالضبط تلك الفترة التي سوف يقضيها الرئيس السيسي في السلطة، إذا ما نجح في إدارتها.

النتيجة في الانتخابات المصرية منطقية لما جرى خلال الأعوام الماضية، لكنها ليست أبدع ما كان، ومن الجائز أن فرصا كانت متاحة لكي لا تكون الفترة الانتقالية الجديدة مجرد نص دستوري، أو فترة زمنية نبحث بعدها عن فترة انتقالية أخرى تحت مسميات أخرى، فالحقيقة هي أن نهاية الفترة الانتقالية كان واجبا أن تبدأ الآن وتحديدا من الانتخابات الرئاسية. لكن الفرصة ضاعت لأن ما يقرب من الإجماع الشعبي المصري على المشير السيسي خلق حاجزا أمام ترشيح أعداد أكبر من المرشحين تفرض التنوع المصري السياسي والجغرافي على الحالة الانتخابية.

هنا فإن هناك نوعا من اللوم جائزا على الجماعة الإعلامية والسياسية المصرية التي هاجمت بضراوة كل من سولت له نفسه الدخول في الانتخابات، سواء من العسكريين مثل سامي عنان ومراد موافي وأحمد شفيق، أو من المدنيين مثل عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد البرادعي وآخرين ربما أرادوا أن يدلوا بدلوهم على الساحة الوطنية. دخول هؤلاء ربما لم يكن ليغير من النتيجة الشيء الكثير، لكنه كان سيفتح الرئة المصرية لمزيد من هواء الآراء والمقترحات ووجهات النظر، وبالتأكيد كان سيقلل من حالة الاستقطاب التي سيطرت على العملية الانتخابية، وفي النهاية فإن النتيجة لم تكن لتظهر بمثل هذا الشكل الذي يفتح الباب لشكوك ليس لها ما يبررها أو يدل عليها.

فرغم كثرة المراقبين والمشرفين والمشاهدين على الانتخابات، ورغم التقارير التي كانت تصدر بعدد ساعات النهار، فإن أحدا لم يذكر أنه جرت عملية تزوير لأصوات في لجنة محددة، أو جرت عمليات لاستبدال الصناديق في لجان أخرى، أو تم إحلال ناخبين محل ناخبين آخرين في مكان ثالث، أو أتيح لناخب أن يصوت عدة مرات كما كانت التقاليد في السابق. وما جاء إلينا عن تأخر فتح اللجان أو ممارسة الدعاية في إطار المنطقة الانتخابية، أو حمل مواد دعائية داخل اللجنة، أو انحياز الإعلام، أو فراغ اللجان في لحظات الحر القائظ، كلها كانت مخالفات واجبة التسجيل والإشهار، ولكنها لا تمس جوهر العملية الانتخابية. والحقيقة أن المرشح حمدين صباحي حصل على فرص كاملة للوصول إلى الشعب المصري حيث تهافتت عليه الصحف والمحطات التلفزيونية، ولكن توجهه «الناعم» إزاء جماعة الإخوان، ومن رآهم الشعب من الشباب سببا في الكارثة الاقتصادية التي يعيشها، والليونة إزاء عودة عصور التظاهر والإضرابات واستمرار الحالة الثورية، لم تجد من هو على استعداد لهضمها في الشعب المصري. ولكن يبقى أن حمدين صباحي كان لديه الشجاعة للعمل من أجل إنقاذ الفكرة الديمقراطية في مصر التي كان من الممكن أن تتعزز أكثر، لو كان هناك من هم على نفس الدرجة من الشجاعة.

المسألة الآن هي كيف يمكن أن تعود مصر، وربما بقية دول «الربيع العربي»، إلى أحوالها الطبيعية بعد أن تعلمت من فترة ما قبل الربيع من شتاء، وما بعده من صيف حار وخانق لكي تصل إلى أهداف يكون تحقيقها سببا في الانتقال من حال إلى حال آخر أفضل وأكثر تقدما. ومرة أخرى فربما يكون حمدين صباحي على موعد مع القدر، فأمامه معركة سياسية ليس مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، وإنما مع جماعته من اليسار الذي انقسم بينه وبين السيسي وإبطال الأصوات التي فاق عددها ما حصل عليه حمدين. تكوين رؤية يسارية ناصرية معاصرة قادرة على جذب خالد يوسف أو عبد الحكيم عبد الناصر أو عبد الرحمن الأبنودي أو شاهنده مقلد أو حزب التجمع والحزب «الناصري»، ربما تكون هدفا نبيلا في حد ذاته. على الجانب الآخر فربما آن الأوان لحزب الوفد أن يقوم بدوره التاريخي في جذب النخبة الليبرالية المصرية التي انقسمت أحزابا وشيعا مثل الدستور والمؤتمر والمصريين الأحرار والحزب المصري الاقتصادي والاجتماعي. أتصور أيضا أن الفريق أحمد شفيق ربما يكون مناسبا للم شمل الإصلاحيين و«البنائين» من الحزب الوطني السابق الذي تختلط فيه اليسارية، بمعنى تدخل الدولة في الاقتصاد والمجتمع، مع الليبرالية الاقتصادية والحماية الاجتماعية. وبغض النظر عما ذكر من أسماء، فإن نهاية المرحلة الانتقالية الجديدة سوف تأتي ساعة أن يكون هناك بنية سياسية حزبية مدنية مستقرة. وبصراحة فإن الاستقطاب الراهن بين الإخوان المسلمين والعسكريين لن يصل إلى نهايته، ما لم تكتمل هذه البنية المدنية التي تقدم بدائل ناضجة للشعب المصري يختار فيما بينها.