في ملف المصالحة التركية الإسرائيلية؟

TT

ألغت السفارة الإسرائيلية في أنقرة وبعد ساعات على فاجعة منجم الفحم التركي حفل استقبال كانت تعدّ له. وأعلنت تل أبيب استعدادها لتقديم أية مساعدات تقنية أو طبية تحتاجها أنقرة خلال عمليات الإنقاذ، وذلك احتراما لمشاعر الشعب التركي وردا للجميل الذي قدمته أنقرة قبل سنوات خلال اندلاع حرائق الغابات في إسرائيل.

بعد أسبوع تقريبا ردت حكومة إردوغان غاضبة على محاولات بعض وسائل الإعلام المقربة من جماعة العلامة فتح الله غولن نقل عبارات مهينة لإسرائيل نسبت إلى إردوغان مما اضطر العدالة والتنمية لنفي وتكذيب المعلومة وتوجيه الشكر مباشرة للحكومة الإسرائيلية على تضامنها وعرض خدماتها خلال المحنة الصعبة التي كانت تمر بها تركيا.

كثر هم الذين يعرفون أن الرئيس الأميركي أوباما كان المشجع الأول باتجاه تفعيل وتسريع المصالحة التركية الإسرائيلية بعد إقناع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بأخذ السماعة والاعتذار الرسمي في حادثة مهاجمة أسطول الحرية رغم أن تل أبيب تملك تقارير دولية بينها تقرير بالمير تبرر لها قانونيا مهاجمة سفينة مرمرة واعتقال ركابها ونقلهم إلى الداخل الإسرائيلي.

فلماذا تتخلى تل أبيب عن كل ما وصلت إليه من دعم وتأييد دولي وتغامر به من خلال قبول اقتراح الاتصال برجب طيب إردوغان والاعتذار لو لم تكن تعرف أنها ستحصل على أكثر مما تقدمه هنا من تنازلات لأنقرة؟

أشهر طويلة من المفاوضات البعيدة عن الأنظار قادها نيابة عن الجانب التركي هاقان فيدان رئيس جهاز الاستخبارات والأمين العام لوزارة الخارجية فريدون سنرلي أوغلو بإشراف مباشر من نائب رئيس الوزراء التركي بولنت ارينش وفي الجانب الإسرائيلي ديفيد مايدن مستشار رئيس الوزراء ومستشار الأمن القومي الإسرائيلي يوسي كوهين بتنسيق كامل مع نتنياهو نفسه.

لو لم تكن هناك رغبة حقيقية في إيصال الأمور هذه المرة إلى بر السلام لما كان ارينش قال إن «تركيا تتحدث عن تطبيع كامل وإعادة العلاقات بين الدولتين إلى سابق عهدها» .

لكن ما لم يقله ارينش الذي لمح فقط إلى أن التطبيع سيحسن من فرص الوصول إلى سلام في المنطقة أن تركيا وإسرائيل باتتا تملكان قناعة مشتركة شبه محسومة أنهما يدفعان باهظا ثمن تدهور العلاقات التي تصب في خانة حماية مصالح بعض اللاعبين الإقليميين وعلى رأسهم النظام السوري وإيران وحكومة المالكي في العراق وحزب الله في لبنان.

الرغبة في إنهاء هذه القطيعة لها أسبابها الإقليمية قبل البحث عن الدوافع الثنائية في المصالحة والتطبيع.

هي تندرج في إطار جردة طويلة من حسابات الربح والخسارة التي قد تبدأ بمحاولات إعادة رسم خرائط التحالفات التي تتقدم على حسابهما أولا، ثم حاجتهما إلى التنسيق الملزم واللابد منه «Sine Qua non» في المنطقة والتي تقودهما نحو إعادة إحياء التحالف الاستراتيجي القديم.

هناك قناعة لدى تركيا وإسرائيل أنهما دفعا ثمنا باهظا بسبب تدهور علاقاتهما وأن المصالحة ستشمل التنسيق في أكثر من ملف إقليمي مثل الملف السوري والإيراني والقبرصي.

المصالحة ستعيد فتح الأجواء التركية أمام الطائرات الإسرائيلية للتدريب على قطع المسافات الطويلة وتسريع مشروع خطوط الطاقة بين البلدين ابتداء من العام المقبل لنقل الغاز الإسرائيلي عبر تركيا إلى القارة الأوروبية وتخفيف ارتباط أنقرة غازيا بروسيا وإيران.

الترجمة العملية الأولى للتوقيع لا بد أن تتضمن زيارة رسمية يقوم بها إردوغان إلى إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة كان يعد لها ويريدها قبل تدهور العلاقات وهي رسالة تحية سياسية لا بد منها باتجاه قواعد العدالة والتنمية وسكان غزة والإسرائيليين أيضا.

وسط أجواء التفاؤل هذه دخل فجأة على الخط ما يهدد بالعرقلة والتجميد ويقلق البلدين فمن يفعل ذلك؟

محكمة الجزاء التركية التي تتابع ملف دعوى أسطول مرمرة أصدرت قبل أسبوع قرارا بمطالبة منظمة الإنتربول الدولي مساعدتها على توقيف واعتقال أربعة من كبار الضباط الإسرائيليين بتهم الوقوف وراء عملية استهداف أسطول الحرية. «قرار فيه الكثير من الغرابة لناحية التوقيت والمضمون بعد سنوات على القضية ووسط جهود المصالحة ورغم معرفة الجميع أن خطوة من هذا النوع لن تغير كثيرا في ملف الدعوى»، كما نقل عن أوساط حكومية ودبلوماسية تركية رفيعة المستوى.

تل أبيب اكتفت بوصف القرار بالتحريض المضحك لكن أنقرة ورغم تجاهلها العلني له فهي تبحث عن احتمال وجود أصابع تتحرك باسم الكيان الموازي، وهي التسمية التي تطلق على جماعة فتح الله غولن، تقف وراء صدوره في محاولة لعرقلة هذا التقارب الذي سينعكس سلبا على علاقات الجماعة بواشنطن ومن خلالها بتل أبيب كما تقول مصادر محسوبة على الحكومة التركية. خطوة تستحق التوقف عندها طالما أن وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو كان قبل أيام يتحدث عن الاقتراب من النهاية واحتمالات الوصول إلى الاتفاق النهائي فهل هي مجرد خطوة عدلية لا بد منها أم أنها رسالة من الجماعة لإردوغان وحكومته أن المصالحة مع إسرائيل ليست بمثل هذه البساطة ولن تكون على حسابها؟ ليس سرا أن نقول هنا إن المعادلات الإقليمية وتحديدا في علاقات تركيا بإسرائيل تحولت إلى قاعدة تقول إنه كلما تحسنت أو تراجعت علاقات دولة منهما بدول أخرى انعكس ذلك إيجابا أو سلبا على علاقاتهما الثنائية ودون شك لدى البلدين أكثر من سبب للإضرار بعلاقات بعضهما البعض. لكن حقيقة أخرى باتت شبه محسومة بالنسبة لهما وأمام أكثر من تحول إقليمي وشرق أوسطي، وهي وكما نفهم من تصريحات ومواقف أنقرة وتل أبيب في الأسابيع الأخيرة، قرار الاستفادة من دروس وتجارب الماضي ومحاولة ترجمتها هدنة عملية على الأرض.