الرايات السود والرايات الصفر!

TT

كل القرارات السياسية تحتمل الصواب والخطأ، ولا يمكن الحكم عليها إلا بعد حين، عندما تظهر النتائج النهائية للفعل السياسي. واحد من الأعمال السياسية ذات العمق الإنساني المؤثر عرفنا نتائجه في الفترة الأخيرة، وذلك عندما ذهبت زرافات من المتشددين إلى الحرب الدائرة في أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي، وعاد بعضهم يحمل الكثير من الندوب الفكرية والنفسية، فعاثوا فسادا في أوطانهم العربية المختلفة. تبين للجميع، دولا وجماعات سياسية، أن هناك ثمنا باهظا يرجح أن يدفع، عندما تشترك جماعات وأفراد من المواطنين في حروب تحت رايات مختلفة خارج الوطن. وقد عمدت دول عديدة، بعد تلك التجربة الصعبة، إلى مراقبة تلك الجماعات وتشديد العقوبات على كل من يشارك في مثل تلك الأعمال الحربية الخارجية، أيا تكن تحيزاتها الفكرية، كما حدث في القرارات الرادعة التي سنتها المملكة العربية السعودية في هذا الأمر مؤخرا.

اليوم يعود الحديث موسعا حول مخاطر «العائدين من سوريا»، وهو حديث تكرر مثله في السابق، كالقول «العائدون من البوسنة أو الشيشان» أو أي بلاد انفجر فيها الصراع، وحاربت فيها مجموعات من خارج الإطار الثقافي - السياسي للدولة الموبوءة. لم يعد أصحاب الرايات هم فقط المتحمسين القادمين من بلاد عربية، بل جاء كثيرون من بلاد أخرى، بعضها شرقي، وبعضها غربي، حتى من الولايات المتحدة. ما يلفت هو عودة الحديث عن أصحاب «الرايات السوداء» ومخاطر عودتهم إلى بلدانهم، وهو حديث يعم الكثير من وسائل الإعلام، وفي الوقت الذي نؤكد فيه خطورة تلك الجماعات على الكثير من المجتمعات والدول، بسبب ما تحمله من أفكار، وما تعرضت له من أحداث، وما حصلت عليه من تدريب عملي على السلاح ومن ممارسات أماتت لدى كثير منهم الإحساس بالآخر الإنسان، يجري التعتيم أو تجاوز أعمال وعواقب عودة أصحاب «الرايات الصفراء»، وهم بالنسبة للفضاء السوري الجماعات التي تحارب مع النظام بدوافع مختلفة جلها آيديولوجي، سواء من لبنان (وهم الأكثر نشاطا) أو من العراق وإيران، على قاعدة اجتهادية خاطئة، تقول إن الخطورة في عودة أصحاب الرايات السوداء إلى أوطانهم، أما أصحاب الرايات الصفراء فهم يعودون أو من يعود منهم يعود إلى حياته الأولى الطبيعية بسلام، وهو افتراض خاطئ، ومحاط بالكثير من الغبش السياسي.

أصحاب الرايات الصفراء بشر، يجري عليهم ما يجري على أصحاب الرايات السوداء من تغييرات مرضية في نمط تفكيرهم وتصرفاتهم ومواقفهم من الحياة المدنية العائدين إليها ومن مجتمعهم وشركائهم في التراب الوطني المختلفين، فالحروب تولد بشاعاتها الخاصة في البنية النفسية للأشخاص المشاركين فيها بصرف النظر عمن يكونون.

لدينا أمثلة كثيرة ومتعددة ومبنية على دراسات مستفيضة، سواء كانت في مجتمعات غربية أو شرقية، حول تأثير الحروب على من يشارك فيها. لدينا الدراسات التي تمت على الجنود الأميركيين العائدين من العراق ومن أفغانستان، وقد تسببت في ترك تأثير سلبي بعيد المدى على شخصياتهم، فسرعة استخدام السلاح، أو ما يسمى بالإنجليزية «Trigger happy»، أي استخدام السلاح ضد الآخر دون مبرر، تصير عملية سهلة. وكثير من أحداث العنف التي ارتكبت في الولايات المتحدة، وأدت إلى القتل، الجماعي والفردي، قام بها جنود سابقون عملوا في أي من العراق أو أفغانستان، أما التشوهات النفسية من الميل إلى الانتحار أو الاكتئاب، والقلق النفسي والتفكك الأسري الذي لوحظ انتشاره بين العائدين من الجبهات، سواء في الولايات المتحدة أو في بريطانيا، فقد مثّل حقائق مرعبة في هذا الملف، رغم توافر الجهود الطبية والرعاية المعقولة لمثل لهؤلاء في تلك المجتمعات. وهذا الأمر يقود كثيرا منهم إلى اللجوء إلى العقاقير المسكنة، وإلى الخمور والمخدرات، عدا الإجهاد الذهني المزمن. وبعضهم، خاصة من يقومون بعمليات التعذيب أو القتل المباشر في حومة الاندماج بالمحيط الحربي، يبتلون كبشر بكوابيس تطاردهم طوال حياتهم.

على المقلب الآخر لدينا الآن دراسات أيضا عن تأثير الحرب الأهلية اللبنانية على المجتمع، وهو ملف مثير ومترع بالمخاوف، حيث إن معظم المظاهر العنفية التي ألمت بالمواطن اللبناني (نساء ورجالا وأطفالا) هي من مخلفات الحرب، وما العنف الذي يتفجر في الشارع اللبناني على خلفية أسباب تافهة، كمثل الخلاف على أولوية المرور في الشارع، أو الخلاف مع الجيران الذي يتصاعد حتى يبلغ استخدام «البارودة»، إلا شكل من أشكال تأثير العنف على الناس. سرعة الانفعال والغضب السريع والتحزب غير العقلاني للرأي السياسي، هي جزء من كل ما يسمى تأثير أو ارتداد الحروب على الناس. المستوى الذي تتخذه ردود الفعل من قطاع من اللبنانيين على ما يكتب وينشر مخالفا لعقائد بعضهم السياسية، حيث يلجأ بعضهم إلى الشارع متسلحا بالعنف، يدل على أن تأثير تلك الحروب، وما تبعها من تورط في سوريا، هو المؤثر الحاسم على خارطة التعامل السياسي واللفظي المحلي، فبقدر ما يتفاقم شعور المجموعات بالعزلة، ونفور الآخرين منها، بقدر ما تلجأ تلك المجموعات إلى العنف، وأحداث مايو (أيار) 2008 ما زالت عالقة في حلوق اللبنانيين، وهي دليل على سهولة نقل السلوك العنفي من الحدود إلى الحواري!!

إذا افترضنا أن أصحاب الرايات الصفراء قد خسروا المعركة (وهو افتراض واجب الاحتمال) فإن رد فعل هؤلاء سيكون أكثر جذرية وحدة، وفي حقيقة الأمر سوف يشكلون في مجتمعاتهم (والمجتمع اللبناني التعددي هو الأكثر احتمالا) قنبلة موقوتة، يمكن أن تنفجر في أي وقت. ولنا في الخلفية الاجتماعية لنضال المُغير، الفتى الذي شارك في التفجير الانتحاري للمكتب الثقافي الإيراني في بيروت منذ أشهر، خير مثال للارتداد السلبي لتأثير البيئة القتالية، فوالد نضال هو المقاتل، كما قال، مع «حزب الله» في عام 2006!

المعادلة طردية في احتمال التشوه النفسي، فكلما زادت سنوات الصراع تضاعف التأثير السلبي، وتراكمت مشاعر كراهية قوية وسلبية ضد الآخر، سواء كان مواطنين مختلفين في الرأي أو المذهب، أو مواطنين زائرين من بلاد عربية معينة. ما يزيد الطين بلة أن أصحاب الرايات الصفراء يقومون الآن بنشاط ملحوظ في تدريب غيرهم في بيئات مختلفة على أنواع القتال سواء بشكل سلبي أو مؤطر، مما يزيد من الاحتقان المميت في بيئات عربية أخرى. حقيقة الأمر أن العنف الذي يستخدمه الجنود الإسرائيليون غير المبرر ضد الأطفال والنساء والمسنين الفلسطينيين، هو جزء من الظاهرة النفسية والعقلية التي تشير إلى أن استخدام السلاح ضد الآخر يصبح تعودا، ويتطور إلى كونه عملية تبريرية للاعتداء على المختلف، وأصحاب الرايات الصفراء ليسوا استثناء!!

آخر الكلام:

الانتخابات الرئاسية السورية هي خطوة كبيرة إلى الخلف، وقد تناولتها معظم وسائل الإعلام تقريبا بالقول «المرشح فيها الأسد وآخرون»!.. وهو دليل على أن الجميع يعرف هامشية المنافسين!! مبروك النتائج المعروفة مقدما!!