حرية أم هراء المعلوماتية؟

TT

طلب 10 آلاف شخص من مؤسسة «غوغل» شطبهم من محرك البحث، استغلالا لحكم قضائي خسرته «غوغل» ضد قرار المفوضية الأوروبية بإجبار مؤسسات الإنترنت على شطب معلومات أي شخص حسب طلبه.

القضية تثير جدلا بين دعاة إخضاع مؤسسات الإنترنت للوائح القانون التي تتعامل مع مخازن البضائع العادية ودور النشر ومحلات عرض الكتب من ناحية، وبين دعاة حرية التعبير والنشر والحق المطلق في الحصول على المعلومات من ناحية أخرى.

القرار يخص بلدان الاتحاد الأوروبي فقط، بينما معظم الواقع خارج أوروبا، وحتى داخلها، أنه لا توجد آليات واقعية لتنفيذه أو حتى لتصحيح معلومات خاطئة. أصحاب المليارات القادرون على توكيل مكاتب المحاماة قد يجبرون مؤسسات ضخمة مثل «ياهو» أو «مايكروسوفت» على تصحيح معلومات عنهم؛ لكن كيف تصحح معلومات تبدو هزلية في أخطائها على المواقع المنتشرة حول العالم؟

الغالبية اليوم من الصحافيين كبلت أذهانهم بأغلال الكسل، فينقلون حرفيا من أول موقع يصادفهم على الإنترنت بدلا من التأكد من مصادر موثوقة.

في عام 2009 كنت طرفا في قضية رفعها تاجر أسلحة ضدي بعدما نشرت عن إفساده مسؤولين بالرشوة، وخسر القضية لأن أدلتي كانت موثقة. عندما نشر محرر شاب الخبر أخطأ في أصولي العرقية وسني، رغم أنه نُشر في صحيفة قومية بريطانية عملت أنا بها لـ15 عاما، يعني أن ملفي الشخصي كان في متناول يد الصحافي الكسول، لكنه نقل من موقع خاطئ المعلومات. قبل أيام أخبرتني صديقة مولعة بأبراج الفلك الصينية أننا 2014 في عام ميلادي «الحصان» (دائرة تغيير الحيوان كل 12 عاما بالتقويم الصيني)، لكني أعرف أني عام الديك؛ لكن الصديقة صادفت موقعا دوّن تاريخ ميلادي خطأ.

أدخلت في «غوغل» بريطانيا فقط «google.co.uk»، والنتيجة مليون و410 آلاف صفحة، فكم يا ترى عدد المواقع والصفحات في «غوغل» الأميركي «google.com» أو لغات أخرى؟ ربما 10 ملايين موقع. يستحيل التأكد من دقة معلوماتها! في بحث نصف ساعة وجدت سبعة تواريخ ميلاد تضع عمري ما بين 43 و87 عاما.. ووجدتني أعتنق خمس ديانات بجانب أنني ملحد أيضا. وحتى في داخل الأديان أنتمي لطوائف مختلفة. مواقع تؤكد أنني شيعي أعمل للمخابرات الإيرانية وأتقاضى الرشاوى من نظام بشار الأسد، وحسب مواقع أخرى تجدني سنيا متدينا أتقاضى الرشاوى من مخابرات دول عربية!

الغريب أن مواقع كثيرة تصنفني كيهودي والجدل يحتدم فيها هل أنا أشكنازي أوروبي، أم سفاردي شرقي، خاصة أن البعض يصر على أنني يهودي مصري، والآخر على أنني يهودي عراقي؛ والمواقع اليهودية تتفق على أنني «Self-hating jew» (يهودي كاره للذات) بسبب مقالات انتقادية لسياسات إسرائيل عندما كنت مراسلا في القدس!

ويبدو أن كتبة ومحرري المواقع بدورهم أكثر كسلا من الصحافيين، فيكتفون بالنقل من الإنترنت بلا بحث، فبينهم «شهود عيان» لم أصادفهم في حياتي، وآخرون كانوا زملاء دراسة في بلدان لم تطأها قدماي. اكتشفت أنني رجعي عنصري من الحزام المسيحي البروتستانتي جنوب الولايات المتحدة؛ بينما أعاد آخرون «رجعيتي» إلى أصلي «الكاثوليكي» من وسط أوروبا. في الوقت نفسه أنا «مثير للاشمئزاز» كملحد، ومن عبدة إبليس (لم أصادف، بعد، موقعا يتهمني بحفر القبور وسرقة الجثث، وأرجو إذا صادف أحدكم هذه التهمة أن يوافيني بالرابط). مئات المواقع تؤكد أنني من الكنيسة الأنجليكية بحكم نشأتي في المدارس الأرستقراطية الإنجليزية التي غسلت مخي فتمكنت المخابرات البريطانية (MI6) من «تجنيدي» فور تخرجي في كلية الدراسات الشرقية (مفرخة الجواسيس).

مواقع القومجية العرب والإسلامويين انقسمت؛ بعضها يؤكد عملي مع «سي آي إيه»؛ والآخر لديه «الأدلة» على عمالتي للموساد. عشرات المواقع واثقة من أنني عميل لمخابرات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (بلا تفسير لماذا أترك الـ«سي آي إيه» بميزانيتها الضخمة للعمل مع الروس الذين لا يدفعون بسخاء الأميركان، خاصة مع اتفاق المجموعتين على أنني «قلم مأجور»؟).. هل لأنني نبهت القراء والمشاهدين أن الأزمة الأوكرانية من صنع الاتحاد الأوروبي وليست من صنع روسيا وعلينا أن نتفهم قلق موسكو؟

حسب المواقع «العليمة» و«المحترمة» فأنا صهيوني مؤيد لإسرائيل، لكني أيضا معاد لإسرائيل إما بعنجهية وعنصرية خريجي المدارس الخاصة الإنجليزية، أو لانتمائي لليسار الليبرالي البريطاني رغم إدانتي كيميني رجعي ديناصوري العقل، يعيش في عصر الإمبراطورية الإمبريالية ومتعصب ضد التطور. ورغم أن عددا معتبرا من المواقع يعتبرني من دعامات الحركة الشيوعية في بريطانيا، فلم أعثر على مواقع تتهمني بالعمل في المخابرات الصينية (حسب علمي تدفع بسخاء، فأرجو أن يدلني البعض على رابطة الاستخبارات الصينية لأن رقم الوكالة غير مدون في دفتر التليفون). أما بالنسبة لأصولي العرقية وجنسيتي القانونية، فتستحق مسلسلا رمضانيا.

قانونيا لا أحمل سوى جنسية واحدة طوال حياتي هي البريطانية؛ لكن، حسب بحث «غوغل»، أنا أميركي (من أصل قبطي مصري) وشيعي بحريني، أو إيراني؛ وعراقي، ولبناني من أصل فلسطيني وأيضا إسرائيلي، وفي الوقت نفسه اسكوتلندي (لا ألومن إلا نفسي هنا فكثيرا ما أنشر تحت اسم مستعار أليكس داروين). البعض يؤكد أنني أسترالي (رغم أنه لا توجد لي صورة واحدة مترنحا خارج حانة). ولا توجد وسيلة عملية لتصحيح هذه الهراء، حتى لو كسبت كل قضية ضد أي موقع يصادفك، فكيف سترغم الصحافيين الكسالى على التأكد من المعلومة قبل النشر (هناك صحافيون في لندن لا يكبدون أنفسهم عناء مكالمة تليفونية مجانية لسؤالي قبل النشر)؟

ربما تنجح في حث مواقع محترمة كـ«الديلي ميل» أو «ياهو» على تصحيح المعلومات؛ لكن ماذا عن أمثال «ويكيبيديا»، التي يغترف منها الصحافيون والمفتوحة للمدمنين على إضافة معلومات، ومنهم من يعتقد أنه يعرف الشخص المستهدف أكثر مما يعرف نفسه؟ لا أعلم من كتب صفحتي قبل عقد، وفشلت كل محاولاتي لتصحيح تاريخ الميلاد «فغلب حماري» وكففت عن المحاولة. وكيف سأصحح ما أعرف أنه أكثر من 10 ملايين صفحة لو جمعنا لغات أخرى؟

ربما الوسيلة الواقعية أن أسارع بنشر سيرتي الذاتية قبل أن ينزع عزرائيل ملكيتي لأدوات الكتابة، فلا أتمكن وقتها من تصحيح ما سيتطوع الحمقى المقربون (حسب القول المأثور، اللهم اكفني شر أصدقائي) في شارع الصحافة بخطه في مرثيتي فيضيفون الإحراج والخجل والأحزان إلى الديون المادية التي سأتركها للورثة!