الأمن المائي.. موجود أم مفقود؟

TT

الخليجيون قلقون من نقص المياه، ويخشون من المياه على مواردهم النفطية. هذا هو الانطباع العام في كل فعالية تتناول موضوع الأمن المائي لدول الخليج، ومؤخرا، كان ذلك خلال مؤتمر مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة.

الذي أثار طرح القضية اليوم تقرير للأمم المتحدة صدر قبل أسابيع عن حال المياه في العالم. التقرير الأممي عرض أرقاما تستدعي الحذر، فمنطقة الخليج العربي التي يسكنها 45 مليون نسمة تعد من أكثر مناطق العالم شحا بالمياه وأكثرها استخداما لمنصات التحلية، وبرقم دقيق فالخليج يقوم بنحو 50 في المائة من عمليات التحلية في العالم، السعودية وحدها تستأثر بما يقارب 18 في المائة من النسبة العالمية.

المقلق في التقرير ناحيتان، الناحية الأولى أن الاستهلاك المطرد للطاقة من خلال حرق الكربون (النفط) لتحلية المياه سيزيد الأمر سوءا من حيث نسبة الانبعاثات الغازية في الجو، وملاحظ خلال الثلاثين سنة الأخيرة حالة التطرف المناخي التي أصابت منطقة الخليج، من الرياح المغبرة، ونقص المياه الجوفية بسبب الاستخدام غير الأمثل، إلى الزيادة في درجة الحرارة التي بلغت نصف درجة مئوية، وهو معدل خطير. أما الناحية المباشرة فهي أن النفط الذي يعد المصدر الرئيسي للتنمية في دول الخليج العربي يستهلك جزء كبير منه في إنتاج الطاقة التي تستخدم في التحلية. في السعودية على سبيل المثال 25 في المائة من إنتاج النفط والغاز يذهب في تحلية المياه، والكويت يحذرها التقرير الأممي بأنها قد تضطر خلال سنوات قليلة (في عام 2035) أن تختار ما بين النفط أو المياه! حيث ستتساوى كمية إنتاج النفط مع ما تستهلكه منه لتحلية المياه المالحة.

ما العمل بعد هذا القلق؟

الأزمة خطيرة إنما الحلول ممكنة. التقرير أشار بشكل خاص وبإيجابية إلى مبادرة العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز حول مشروع استخدام الطاقة الشمسية لتحلية المياه الذي أطلق في العام 2010 ومدة جهوزيته تسع سنوات مضى نصفها حتى الآن. هذا من أهم وأجدر ما يمكن عمله، فالطاقة الشمسية آمنة بيئيا، ومتوفرة، كما أنها تقنية بعيدة عن استنزاف النفط؛ مصدر الخير والرفاه.

من ناحية أخرى، يقول دعاة الترشيد إن استهلاك الفرد للمياه في الخليج ضعف نظيره في دول الاتحاد الأوروبي، ويعزون ذلك لقلة الوعي بقيمة الماء الذي يعد أرخص موجود لأنه متاح بلا عناء يذكر، حيث من المعلوم أن فاتورة المياه في الخليج إما مجانية أو قريبة من ذلك، وما يأتي سهلا لا يؤخذ في حسبان الأهمية، والنفيس عادة لا يهدر. مع هذا، لا أعتقد أن رفع سعر الماء يعد قرارا صائبا في ظروف معيشية مكلفة، إنما الحل بالاعتماد على حواسب تقنية (عدادات) تحسب استهلاك أفراد البيت الواحد للمياه في الشهر. هناك حصص ثابتة عالميا لحاجة الفرد الواحد، إنما إن زاد استهلاكه عن هذه الحصة بما نسبته 10 في المائة مثلا، يصبح من حق الحكومة أن تحسب عليه كل قطرة ماء ذهبت هدرا بسعر الذهب. هذا منهج توعوي عملي، إن كانت الإرشادات والترغيب الكلامي لم يجد نفعا طوال هذه السنين.

الحكومات الخليجية كذلك تجاوبت مع رأي الخبراء بأن الزراعة هي المتهم الأول في أزمة المياه، لأنها تشرب منه ما ليس من حقها بما يصل إلى 85 في المائة من مياه الخليج العذبة، بمقابل مساهمتها بواحد في المائة فقط في الناتج المحلي. السعودية اتخذت تدابير جادة، توقفت عن زراعة بعض المحاصيل الشرهة للمياه كالقمح الذي ستتوقف الحكومة عن شرائه من المزارعين بحلول عام 2016. وحجمت بعضها الآخر كالأعلاف، وهذا أمر حسن، ولكنه لا يكفي. حتى وإن اعتمدنا الشمس في التحلية، ليس من مصلحة بيئة البحار أن تكون مصدرا لتحويل الصحراء إلى حقول للنخيل والأعلاف.

أيضا هناك جان آخر على المياه غير الزراعة، وهو الصناعات المائية؛ المياه المعبأة، الألبان، العصائر. هل يصدق أحد أن السعودية، تستطيع أن تجد مياهها المعبأة من طبقاتها الجوفية التي يصعب تعويضها، وعصائرها وألبانها، في أسواق دول الخليج والدول العربية المجاورة والبعيدة؟ والغريب أن كل هذه الصناعات معانة من الحكومة التي تبذل الغالي حتى توفر مياها عذبة وكهرباء للمواطنين، ثم تقدم هذه الخدمات للمصانع شبه مجانية بهدف دعم الصناعة، أي أن جزءا كبيرا من الدعم الحكومي يصدر للخارج! أمر محير حقا.

في محلات البقالة في ضواحي بحيرة جنيف تباع قنينة مياه «إيفيان» الصغيرة بما يعادل 15 ريالا سعوديا، ومنبع إيفيان ليس بعيدا عن البحيرة. في السعودية لو توقفت صناعة المياه المعبأة من الطبقات الجوفية التي تباع بريال واحد واستوردت من الخارج لن تصل إلى هذا السعر في ظل الدعم الحكومي للسلع.

من جانب مشرق، هناك من المهتمين من ينادون الحكومات بقرار سياسي لحصد مياه الأمطار التي وإن كانت تهطل بشكل متقطع، إلا أن كميتها تصل إلى حد يفي بضعف الحاجة القائمة، وهذه معلومة غائبة عن معظم الناس. أحد هؤلاء المهتمين هو الباحث السعودي عبد الله الرشيد، الذي ذكر في لقاء مع جريدة «الرياض» أن الأمطار التي تهطل سنويا على جبال السروات وحدها تبلغ 37 مليار متر مكعب، تلبي الطلب على المياه في المملكة وزيادة، دون الحاجة لتحلية 1.7 مليار متر مكعب تستنزف طاقتنا من النفط كل عام. إنما من المؤسف أن معظم هذه الكمية من الأمطار يذهب هباء إلى البحر الأحمر.

حينما أتأمل في كوب ماء وأستدعي المراحل التي مر بها حتى وصل إلى يدي، أدرك أن من الحماقة والتخلف اعتباره أهون موجود بينما أعيش في قلب الصحراء. امنحوا كوب الماء الكثير من التقدير، والتفكير، فنحن من يجعل منه أعز، أو أهون موجود.

[email protected]