النقد الثقافي ليس خيانة

TT

التفريق بين الدين كنصوص مقدسة والفكر الديني كاجتهادات بشرية كان مطلبا متكررا في كثير من الأوقات بالنسبة للمثقفين في مجتمعنا، لكننا اليوم أمام مرحلة جديدة أصبح فيها التفريق بين الدين والفكر الديني مطلبا سياسيا، واجتماعيا أيضا، فالحركات التي تلبس عباءتها الدينية لأهداف تخريبية أصبح التفريق بينها وبين الدين شرطا ضروريا بالنسبة للسياسيين، والمجتمع السعودي المحافظ والتقليدي الذي فوجئ بعدد البنات والنساء اللاتي التحقن بالجماعات الإرهابية، هو الآخر أصبح يطالب بالتفريق بين فكر الإرهاب بعباءة الجهاد الديني وبين الدين، لقد كانت الدعوات الثقافية التي حاولت مرارا وتكرارا التفريق بين الدين والفكر الديني المتنوع والمتعدد الاتجاهات، كانت دعوات تنطلق من وعي مسبق بما يمكن أن تؤول إليه هذه المطابقة بين كلام الشيخ الداعية وكلام الله، لم تكن دعوات جزافية ترفض الدين وتحاربه كما جرى تصويرها سنين طويلة، لقد دفع المجتمع والدولة اليوم ثمنا باهظا لتجاهل تلك الدعوات، والاستمرار اليوم في تجاهل أي دعوة تنويرية في أي مجال ستظهر عواقبه على كل المستويات يوما ما أيضا.

المسألة التي يجب استدراكها اليوم ليس فقط فهمنا لمعادلة فصل الفكر الديني عن الدين والتفريق بينهما، بل في فهمنا لطبيعة الدعوات الثقافية والصراع الفكري، وكيف أنها ليست تنظيرا فقط، بل رؤى تتماس مع سياسات الدولة وتمسها في عمقها، الدعوات الثقافية التنويرية التي اتهمت بأنها تجديف يهز ثوابت المجتمع اتضح اليوم أنها كانت أكثر إخلاصا للثوابت من الدعوات المتطرفة والمتشددة التي تسيدت الموقف سنين طويلة، لقد كان النقد التنويري لمجموعة الثوابت نقدا بناء لا يهدف إلى الهدم من الخارج، بل يهدف إلى إعادة الترميم من الداخل، ومن دون أي ارتباطات خارجية مغرضة، لقد فرضت الأحداث الأخيرة على الواقع دروسا يجب التوقف عندها وفهمها جيدا؛ أولها وأهمها أن النقد الثقافي ليس خيانة، وليس براءة من أهل الدين، بل هو القاعدة الأساسية التي يجب أن يقف الجميع عليها، ويجب على الجميع أيضا الاعتراف بها أساسا للعمل في مختلف المجالات القانونية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية. النقد الثقافي وما ينتجه يجب ألا يبقى معزولا ومسفها من قبل مؤسسات الدولة، ولا من قبل المجتمع، ولا حتى من قبل الشركات ومؤسسات الأعمال.

الإنتاج الثقافي الذي يفكك ويحلل ويركب ويبني، ليس تنظيرا خارج الزمان والمكان، بل قراءة تمس الناس في حياتهم، وتمس الدولة في أركانها، الإنتاج الثقافي يجب أن يحصل على موقعه الطبيعي في أي مجتمع يريد التقدم والحياة، المسألة ليست في رد الاعتبار للمثقف، ولا في إيلاء العمل الثقافي مكانة التكريم والتقدير، بل في دمج المنتج الثقافي كجزء من سلسلة العمل الواقعية، كحلقة أساسية في سير العمل في مختلف القطاعات.

أن نقول إن الإنتاج الثقافي لا يعنى إلا بالأعمال الأدبية لنوضح محدودية مجاله، هو قول محدود، ليس لأن الإنتاج الثقافي أوسع بكثير من العمل الأدبي فقط، بل لأنه حتى الأدب، كعمل ثقافي كلاسيكي، يمس المجتمع والناس، ويعكس حقيقتهم، تماما كما يوثق تفاصيل حياتهم، الأدب وحده عامل مهم في تشكيل مخيال الناس، وتنشيط أدوارهم في الحياة، أما الثقافة ومنتجها ككل فهي أكثر حقيقة من الدولة والمجتمع، لأنها تحكم الاثنين معا، وتجاهلها يعني تجاهلا للاثنين أيضا، الثقافة ليست حالة، وليست مجرد صفة تلحق البعض دون غيرهم، بل هي أيضا المعرفة بكل أنماطها، هي الاعتقاد والسلوك، هي التفكير والتعلم، هي الاتجاهات والأهداف والقيم، هي كل هذا وأكثر، فلماذا نذهب إلى تحديدها وترميزها كحالة خاصة لا يعيشها إلا البعض، ولا يهتم بها غيرهم، وأن ما ينتج عنها لا يتعدى كونه كتابا أو مقالة أو عملا فنيا، نحن في مجتمع ودولة لا تعتبر كثيرا بمعنى السياسات الثقافية، أي إننا ببساطة لا نعترف أنه من الممكن العمل على الثقافة لا بتغييرها، ولا بخلق أي جديد فيها، لا نعترف بأن الثقافة يمكن أن ترصد لها ميزانيات لننفذ ما ينتج عنها من رؤى، وأن هذه الرؤى يجب أن تتحول إلى استراتيجيات ترسم مستقبل وواقع الدولة والناس، لأن ذلك وحده يمكن أن يحمي الدولة ومؤسساتها من مواجهة أخطار الخارج، ووحده ذلك يساعد المجتمع في تحديد ثوابته قبل أن يطعن في خاصرته من قبل أكثر المدعين بالحفاظ عليه.

هنالك دروس كثيرة يجب أن نستدركها إذن، فالمسألة لن تتوقف على ضرورة نزع القداسة عن الفكر الديني، لأنه لم يعد مقبولا أن نظل متفاجئين بكل حدث وظاهرة في مجتمعنا، كما لو كانت تنزل قدرا لا قبله ولا بعده، بينما نحن نعيش كل أدلتها ودلالاتها، نرعاها ونزيد من قوتها، وندافع عن كل أسبابها.

*كاتبة سعودية