ما الذي جعل واشنطن منكسرة؟

TT

حان الوقت الذي لا نحمل فيه واشنطن على محمل الجد. وكيف يا ترى سيتعامل الكونغرس مع حالات العجز وتغير المناخ والبنية التحتية المتهالكة والرعاية الصحية غير المتاحة وسياسة الهجرة المضطربة والقوانين البالية والخدمة المدنية الهوجاء، وتزوير الانتخابات في بعض المقاطعات؟ وتستطيل قائمة حالات الفشل لحكومتنا الديمقراطية، كما أن الإصلاح المسؤول يبدو ميئوسا منه. لكن اتضح أنه حتى لليأس دوره السياسي. فمعظم التغيير لا يأتي بصورة متزايدة تراكمية، بل في جرعات كبيرة بعد فترات خمول طويلة بحسب عالِمَي السياسة فرانك بومغارتنر وبريان جونس. وقد يبدو أنه لا شيء سيتغير أبدا، لكن الضغوط تستمر حتى تأتي لحظة معينة، كما يحدث في ظاهرة الزلازل عندما تنزلق الأرض فجأة ويتطور نظام جديد.

وتحدث الثورات بهذه الطريقة، فأكبر التغيرات في السياسة الاجتماعية في الولايات المتحدة حدثت نتيجة لتغيرات تكوينية بنائية بعد ضغوط تراكمت على مدى عقود مثلما حدث خلال الستينات (الحقوق المدنية)، خلال الفترة التقدمية (التنظيم) أو خلال الحرب الأهلية (إنهاء العبودية). والشيء الوحيد الذي اختلفت فيه الصفقة الجديدة (شبكات السلامة الاجتماعية) هو أن الضغوط خلال الكساد الكبير كانت أكثر إلحاحا.

ويعلم الأميركان أن الحكومة منكسرة، لكن جزءا حيويا من التغيير مفقود. فليس هناك مركز جاذبية لحالة عدم الرضا الشعبية السائدة. وليس لتيار الشاي حل منطقي فلا يعتبر مجرد التخلص من معظم البرامج الحكومية خطة عملية. وفقدت معظم المجموعات الإصلاحية صلاحيتها الأخلاقية بتصرفها كمصالح خاصة مهتمة فقط بقضاياها وليس بالمصلحة الأكبر. وبدلا عن التضافر لتطوير نظام جديد فقد انتهى الأمر بالمناصرين لحماية البيئة وصقور الموازنة وغيرهم من الإصلاحيين بالتنافس على وقت البث الإعلامي الذي يظهرون خلاله.

ما هي الفلسفة الجديدة لكيفية نجاح الديمقراطية؟ من غير المتوقع أن تفضي قائمة من الإصلاحات المعنية إلى حركة شعبية. وكان لجميع فترات الإصلاح في تاريخ الولايات المتحدة هدف واضح مع قاعدة أخلاقية سامية مثل مبدأ عدم التدخل في الاقتصاد أو سياسة التمييز العنصري. وكذلك يحتاج الإصلاح الكبير اليوم إلى هدف واضح يستطيع المواطنون فهمه والوقوف خلفه.

ما الذي ضل السبيل في الديمقراطية الحديثة؟ إن الاستقطاب السياسي هو أحد الشرور وصعود التطرف السياسي واضح.

ولكن لماذا يحدث ذلك؟

اعتقد أننا نظرنا إلى المسألة بصورة معكوسة. فالاستقطاب هو غالبا عرض وليس سببا للعجز. وأصبحت الديمقراطية عاجزة، فليس للسياسيين العجزة من سبيل سوى الإشارة بالأصابع.

ومن السخرية أن المذنب الرئيس هو القانون، إذ كتبت أجيال من مشرعي القانون وواضعي النظم الكثير من القوانين وبتفاصيل دقيقة منعت المسؤولين من التصرف بصورة معقولة. وكما الرواسب في المرفأ، تراكم القانون حتى أصبح من المستحيل تقريبا بالفعل على المسؤولين اتخاذ الاختيارات اللازمة للحكومة لتحقيق ما ترمي إليه.

إن أكثر القرارات بساطة يتطلب من الحكومة إزاحة جبال، فالموافقة على مشاريع جديدة للبنية التحتية تستغرق عقدا أو أكثر. وتصبح حالات الفشل في التطبيق حالات فشل في السياسة. وأصدر الكونغرس مؤخرا تقريره لخمس سنوات حول الخطة التنشيطية بمبلغ 800 مليار دولار لعام 2009. وكان جزء من الهدف الأصلي، كما ذكر الرئيس أوباما حينها، هو «إعادة بناء البنية التحتية للولايات المتحدة». فكم من مخصصات تلك الخطة التنشيطية ذهب لذلك الهدف الجدير بالتمويل؟ دُفنت بحروف صغيرة في التقرير هذه الحقيقة: 3 في المائة فقط ذهبت إلى البنية التحتية للنقل.

لماذا؟ لأن رئيس الولايات المتحدة تعوزه السلطة لإجازة إعادة بناء الجسور والطرق المتهالكة. وفي الصفقة الجديدة بالمقابل وظف هاري هوبكنز 2.6 مليون شخص قبل شهرين بعد تعيينه رئيسا لإدارة الأعمال المدنية الجديدة.

إن الديمقراطية الهرمة هي جزء من المشكلة، فكل قانون يتراكم على ما قبله. فالتعليم الخاص على سبيل المثال يستهلك حاليا نحو 25 في المائة من مجموع مخصصات المنصرفات لتعليم مرحلة (كي 12) الابتدائية والثانوية. وليس هناك تمويل تقريبا للبرامج الموهوبة أو تعليم مرحلة الطفولة المبكرة. فهل يعتبر ذلك هو التوازن الصحيح؟ ليس هنالك من يسأل هذا السؤال. وتطور القانون بهذه الطريقة.

واستغرقت مراجعة مشاريع الطرق السريعة متوسط سنتين خلال السبعينات، وبحلول عام 2011 وصلت حتى ثماني سنوات. وكان قانون عام 1956 لنظام الطرق السريعة بين الولايات من 29 صفحة، وكان قانون إعادة صياغة نظام الرفاهية الاجتماعية عام 1996 من 251 صفحة. يصل حجم القوانين في هذا القرن الجديد إلى مئات الصفحات أو ما يزيد. وتبلغ لائحة فولكر الخاصة بتنظيم الملكية التجارية 950 صفحة، وما هي سوى مجرد جزء صغير من قانون دود فرانك الكبير.

ينبغي استعادة المسؤولية الإنسانية كفلسفة تشغيلية للديمقراطية، فالناس الحقيقيون وليس اللوائح البيروقراطية هم القادرون على إجراء التسويات لموازنة الميزانيات أو ليكونوا عادلين أو ليغيروا الأولويات. لا يمكن للديمقراطية أن تنجح في غياب أشخاص معروفين قادرين على اتخاذ الخيارات العامة وخاضعين للمساءلة على النتائج.

إن استعادة المسؤولية ليست صعبة من حيث المفهوم، فكل قانون له أثر متعلق بالموازنة يجب أن يغرب، حتى يتمكن المشرعون من إعادة ترتيب أولوياتهم والتكيف مع الظروف الجديدة. كما يجب تبسيط معظم القوانين بصورة جذرية بحيث تصير هناك أسس مفتوحة من الأهداف والمبادئ توفر المرونة للمسؤولين لأداء مهامهم.

لكن المشكلة بالنسبة للقوانين الكثيرة أنها قوانين، ولذلك ليس بوسع أي شخص حتى الرئيس التحايل عليها. لن تنجح الديمقراطية حتى يجري إعادة صياغة هذه الغابة القانونية، للسماح للمسؤولين بتقلد مسؤولياتهم من جديد.

ولا يتطلب قلب هذا النظام العاجز الإصلاحات هنا أو هناك، بل التغيير الشامل. ومهما كانت الوجهة التي تعتقد أن الولايات المتحدة تحتاج للتوجه إليها، فلن يمكننا بلوغ ذلك المقصد من هنا، فلنتوقف عن خبط رؤوسنا بالجدران. لا تفشل حكومتنا بسبب السياسات الخاطئة، بل بسبب التصميم المعيب للمؤسسة، ولا يسمح لأحد بتحمل المسؤولية. وسينهار هذا النظام طال الزمن أو قصر، وهذا هو وقت تكوين حركة لإعادة بناء هذا الكيان المنكسر.

* خدمة «واشنطن بوست»