حان وقت العمل: الإصلاح الديني و«الربيع العربي»!

TT

«نحن أصحاب المنهج الإسلامي نملك للبشرية ما لا يملكه أحد آخر على ظهر هذا الكوكب» - سيد قطب. أعتقد جازما أنه لم تقترب أي آيديولوجيا سياسية أو دينية من هذه الوثوقية الطاغية التي كثّفها سيد قطب العرّاب الأصولي الأبرز للإسلام السياسي الذي لا يتجاوز عمره الوجودي أكثر من قرن ونصف من الزمان على أبعد تقدير إذا اعتبرنا أن انحسار تراث الإصلاحيين مهّد لولادة الأصولية السياسية الجديدة، وإن كنت أميل إلى صفّ الباحثين الذين يعتبرون أن رموز الإصلاح الديني من الأفغاني إلى محمد عبده وتلميذه رشيد رضا وآخرين يحمل بذور الأزمة لا سيما في شقه السياسي وليس الديني، اجتراح فكرة «الإسلام السياسي» بديل «الخلافة» أدى إلى تقويض الكتلة الدينية التقليدية التي تشمل المؤسسات الدينية والتيارات الفكرية والعقائدية التي ظلت متعايشة تحت سقف الخلافة، ثم لاحقا اندمجت وتم احتواؤها عبر تاريخ طويل من السجال في جسد الدولة، وتلك كانت صمام أمان لشرعية الكثير من الأنظمة حتى تلك التي رفعت شعارات البعث واليسار والقومية، وما يغيب عن الأذهان في هذا السياق أن المكوّن الديني الرسمي ليس حصرا على مؤسسات كالأزهر وهيئة كبار العلماء، بل يشمل الخطاب الشرعي العام، وطريقة دمج الديني في الاجتماعي لكسب الشرعية السياسية وحصر نطاق الفعالية الدينية في المؤسسات الرسمية، لكن ما رد الصحوة الدينية التي اجتاحت عقب فشل الدولة الحديثة العربية ونمت على فراغ سياسي كبير خلفه سقوط الأحزاب السياسية المترهلة، والأهم وجدت أرضية دينية مهملة بعد أن أفلحت مدافع «الإصلاحية الدينية» في دكّ حصون الإسلام الرسمي والتقليدي والاجتماعي الذي تعود جذوره إلى الإسلام المبكر ولاحقا سحب «الفعالية الدينية» بما تشمله من حضور سياسي واجتماعي لتصبح حكرا على الأصولية الناشئة التي أمسكت بمفاصل المجتمع واستطاعت أن تحتوي السياسي وتغريه بالتماسك الظاهري للمجتمعات، كما أنها استطاعت أن تغري حتى الديني التقليدي باعتبار أنه كان يعاني من عزلة مجتمعية حادّة لصالح الوظائف الدينية الجديدة الداعية، الراقي، المنشد الديني، المستشار الأسري... إلخ، وهي وظائف كانت حكرا على العالم الشرعي الذي كان يؤدي أدوارا متكاملة.

هذه مقدمة وإن بدت مكثفة جدا تختصر علاقات شائكة بين الديني والسياسي في مجالنا العربي لعقود، وهي علاقة زعزعها «الربيع العربي» حين شاءت الأصولية الحركيّة القفز على سنن التاريخ واستعجال الثمرة قبل نضج أدائها السياسي، فطمحت إلى صعود العرش السياسي باعتباره قطب هدفها في تغيير الواقع، لكن الاستئثار والوثوقية العالية واعتقاد أن ما حدث هو تمكين إلهي، أورثها خسارة يبدو أنها ستدوم طويلا في حال تم التعامل مع الفراغ الكبير في «الفعالية الدينية» التي يحتكرها الإسلام السياسي الحركي بقواعده الشعبية وآلياته وحضوره الطاغي وخبرته في الحشد.

الأكيد أن بوابة الإصلاح السياسي في منطقة مفارقة لكل العالم من حولنا هي الإصلاح الديني، ودون ذلك فنحن نطيل فقط من أمد الصراع على «الشرعية» وفقا لتغير الظروف السياسية، الإصلاح الديني الآن بما يشمله من تأسيس مفاهيم جديدة للعلاقة بالسياسة والمجتمع والعمل الأهلي المدني وبما يشمله من مراجعات نقدية جادّة.

الإصلاح الديني ليس مطلبا ترفيا الآن، هو آخر نقطة عبور لأزمة صراع على المعنى بين الإسلام السياسي من جهة وبين الأنظمة السياسية، إلا أن الكتل الجماهيرية الآن منحازة ضد فكرة احتكار المعنى الذي عكسه الإخوان في التجربة المصرية بشكل فج وراديكالي جعلت حتى المتعاطفين مع منحهم فرصة ينفضّون عنهم.

الانتصار في المعركة السياسية والفشل في معركة الشرعية الدينية سيحولان جماعات الإسلام السياسي إلى أقليات قابلة للانبعاث متى ما طرحت نفسها كأقليات مضطهدة دينيا يتم استهدافها باستمرار والحجر عليها، وبالتالي تبرر هذه الجماعات خروج مجموعات انتحارية عنفية لم يستطع الخطاب الديني الرسمي الذي يعيش بياتا شتويا منذ زمن ترويضها أو عقلنتها.

الإسلام السياسي الحركي يعبر عن موجات اجتماعية وليس مجرد أحزاب وتنظيمات سياسية، هناك فرق كبير من جهة مصادر التلقي والانتشار والتعبئة، لذلك التحولات بحاجة إلى خطابات بديلة على مستوى الفكر والعقل وليس فقط على مستوى الخيار السياسي.

غياب الإصلاح الديني وردم كوة الفراغ الذي سيخلفها الإسلام السياسي المتغلغل ليس فقط كمكون سياسي معارض أو مكتسح اجتماعي ليس له منافس، بل حتى على مستوى المشاركة الإعلامية والإفتاء والدعوة في الداخل والخارج والتدريس الجامعي... إلخ، وهي مصادر تلقي جذرية لا يمكن أن تملأ بشكل عشوائي.

[email protected]