كيف تساعدون مصر؟

TT

إذا كانت هناك صورة نقية للشهامة العربية، فهي تلك التي ظهرت في برقية التهنئة التي أرسلها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي حال فوزه في الانتخابات الرئاسية المصرية. كانت البرقية عاكسة ليس فقط لعلاقات استراتيجية تاريخية، أو لرابطة الإسلام والعروبة بين المملكة العربية السعودية ومصر، أو للمشاركة بالنفط والدم في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، وحرب تحرير الكويت 1991، أو لحقيقة أن هناك أكثر من مليون مصري يعملون في المملكة، أو لأكثر من نصف مليون سعودي اختاروا أن يكون لهم في مصر محل ثان للإقامة أو للسياحة أو الدراسة - إنما كانت البرقية عاكسة لقيم عظمى من النبل، والمروءة التي نلخصها في كلمات «القيم العربية الأصيلة». هذه القيم ذاتها ظهرت، بوضوح وكرم، في برقيات سمو الشيخ خليفة بن زايد رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وبعدها توالت من قادة الكويت والبحرين والأردن والمغرب والجزائر. مساحة المقال لا تسمح بتوجيه الشكر لكل هؤلاء الذين انتفضوا لتأييد مصر في لحظة تاريخية حرجة، وفي وقت كان فيه الإعلام الغربي، وقادة الغرب، يدسون سما في عسل برقيات التهنئة الرسمية.

ليس هذا ما يهمنا علي أي حال، ما يعنينا هو أن البرقيات العربية احتوت على فكرة جوهرية؛ وهي ضرورة مساعدة مصر عن طريق جهد عربي ودولي مشترك. هذه الفكرة، فضلا عما تعكسه من قيم نبيلة، وراءها ثلاثة أمور على أقصى درجات الأهمية الاستراتيجية: أولها أنه ليس مسموحا من قبل هذه الدول العربية، بقيادة السعودية والإمارات والكويت، بفشل التجربة المصرية بقيادة الرئيس السيسي. وثانيها أن نجاح التجربة المصرية سوف يكون المقدمة الطبيعية لإعادة الاستقرار والتنمية للمنطقة العربية بعد ثلاث سنوات من القلق والعنف والإرهاب. وثالثها أن النجاح في مصر هو على جانبه الآخر هزيمة لمشروع الإرهاب السياسي المتشح برداء الإسلام الذي جر على الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط كوارث أنهكت دولا، وقسمت أخرى، ووضعت الأساس للتمييز العنصري وقهر الحريات والفاشية الدينية الرهيبة. معركة مصر في جوهرها معركة مصير ومستقبل، وإذا تعلمنا من تاريخ القرنين الماضيين، فإن التغيير في مصر كان دوما المقدمة الطبيعية لتغييرات أخرى، بحلوها ومرها، في المنطقة كلها.

هذه المرة، الجهد العربي لمساعدة مصر يسعى إلى كسب هذه المعركة على مسرح مختلف في الزمان والمكان، ومع قيادة جاءت بعد سنوات عجاف من قيادات عاجزة أحيانا عن القيادة أو الإلهام، وأحيانا أخرى كانت كوميدية بزغت من تنظيم سري، لا يعرف حتى وهو في الحكم إلا أن يعمل تحت الأرض. القيادة هذه المرة جاءت بالتفاف شعبي غير مسبوق منذ وقت طويل، كما جاءت - وهو الأهم - ببرنامج واضح لتحقيق التنمية في مصر يقوم على العمل الشاق، والاستثمارات الكبرى المصرية والعربية والدولية، وتغيير الخريطة المصرية بجذب مصر كلها - خاصة محافظات الصعيد - من النهر (النيل) إلى البحر (الأحمر والأبيض)، وحكم القانون، وإقامة نظام للأمن الإقليمي عماده العلاقات المصرية مع دول الخليج العربية. هذا النظام له جانبه الاستراتيجي والعسكري، ولكن جانبه الاقتصادي يتجسد في مساعدة مصر لكي تستعيد عافيتها الاقتصادية ومن ثم قدرتها على المساهمة الفعالة في هذا النظام دون ابتزاز من الدول الغربية أو المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية.

هذه التجربة ليست جديدة على العلاقات المصرية - الخليجية، ففي النصف الثاني من الثمانينات دخل الاقتصاد المصري في منعطف حاد، فانخفض الاحتياطي القومي إلى أدنى حد، وجرت أحداث الأمن المركزي، وكان للعملة المصرية سبعة أسعار تجاه الدولار وتجاوزت ديون مصر 50 مليار دولار. ولكن في أعقاب حرب تحرير الكويت، جرى التوافق بين مصر والدول التي تريد مساعدتها على أن تقوم القاهرة بإصلاحات اقتصادية جذرية عمادها تحرير الاقتصاد المصري من هيمنة الدولة مقابل تخفيض الديون المصرية إلى النصف، مع حصولها على حزمة من المساعدات والمنح. وهكذا، دخل الاقتصاد المصري إلى مرحلة من النمو تجاوزت خمسة في المائة في المتوسط لمدة عقدين من الزمان، وتجاوزت الاحتياطيات النقدية 52 مليار دولار عام 2010، وبلغ عدد المدن الجديدة التي بنيت 30 مدينة، وارتفعت الاستثمارات الخارجية في مصر حتى تجاوزت 46 مليار دولار خلال السنوات الخمس الأخيرة من حكم مبارك، وفي العام الأخير لحكمه بلغ عدد السائحين لمصر أكثر من 14 مليون سائح. كانت التجربة التي تلت حرب تحرير الكويت ناجحة بكل المقاييس، ولم تستفد مصر وحدها، بل كذلك الاستثمارات العربية التي تجاوزت 22 في المائة من حجم الاستثمارات التي جرت في تلك الفترة.

الآن، يمكن تكرار هذه التجربة مرة أخرى، ولكن مع تعديلات جوهرية قوامها المساهمة في تنفيذ برنامج الرئيس السيسي الذي يوفر النهضة الشاملة للاقتصاد والمجتمع المصري ويتلافى جوانب العجز والقصور في الإصلاحات التي جرت في عهد مبارك. وكما حدث في السابق، فإنه على الجانب المصري واجبات تحقيق المزيد من تحرير الاقتصاد المصري من القيود البيروقراطية واللوائح العقيمة، والإهدار في الدعم، ومساعدة الفقراء عن طريق التنمية، خاصة في صعيد مصر والمحافظات الحدودية في سيناء والساحل الشمالي والبحر الأحمر. مثل ذلك يحتاج إلى قدرة تنظيمية عالية، ومحافظة على الاتجاه نحو الأهداف، والأهم من ذلك كله أن تقوم على استثمارات تكفل الفائدة والربح لأطرافها. وبصراحة، فإن المنح والمعونات يمكنها أن تحل مشكلة وقتية، أو تنقذ حالة خطرة، ولكنها لا تؤدي في المديين المتوسط والطويل إلى علاقة مستقرة، وتنمية مستدامة.

إن هناك الكثير الذي تستطيع الدول العربية أن تقدمه لمصر بناء على خبرتها في التنمية. وعلى سبيل المثال، فإن تجربة السعودية والإمارات والكويت في تحلية مياه البحر على نطاق واسع تصلح تماما للتطبيق على السواحل المصرية في سيناء والبحرين الأحمر والأبيض. كما أن تجربة التنمية في مدن بعينها حدثت بالفعل في مدينة مرسى علم التي قامت علي استثمارات كويتية، وهذه يمكن تكرارها علي نطاق واسع في مدن سفاجا على البحر الأحمر، والعلمين على البحر الأبيض، والعريش في سيناء. لقد مضى العهد الذي يستطيع فيه المصريون الاعتماد على نهر النيل وحده كمصدر للمياه والحياة، وتستطيع الدول العربية أن تكرر تجارب دبي وأبوظبي والجبيل وينبع في الصناعة والخدمات والسياحة اعتمادا على مشاركة مصرية عربية. وفي كلمة واحدة «الاستثمار»، تتلخص هذه الطريقة في مساعدة مصر، ولكنها مساعدة لن تكون لها آثار دائمة ومستمرة ما لم تكن في النهاية تحقق مصالح وفوائد وأرباح للأطراف كافة.