المصريون ورئيسهم.. السياسة تتنحى

TT

حسم المصريون أمرهم، وانتخبوا رئيسهم لسنوات أربع مقبلة، ربما كانت هي الأصعب في تاريخهم المعاصر. رسالة المصريين للعالم جاءت واضحة وبسيطة: أهل مكة أدرى بشعابها، ولا بديل عن إعادة الاعتبار للوطن والمواطن بعد عقود من تجريف طال كيان الدولة وأنهك مؤسساتها، ومعاناة طالت من أداء سياسي مرتبك، وفوضى، وغياب أمني استنزف الاقتصاد على مدى أكثر من ثلاث سنوات، في أعقاب ثورة أطاحت نظام حكم تهاوى تحت وطأة مظاهر الفساد والاستبداد، ثم أكملت دورتها لتطيح حكما بليدا آخر لم يستوعب الدرس.

أدرك المصريون ما يواجه بلدهم من تحديات، وهم يرقبون بلدانا تتهاوى من حولهم مثل قطع الدومينو. لم يقفوا طويلا أمام خلفية المرشح، سياسية كانت أو عسكرية، ولم تستغرقهم تفاصيل برامج أو مساجلات انتخابية، يدركون أنها لن تكون الفيصل في الحكم على أداء الرئيس الذي تفرزه الصناديق.

نحى المصريون السياسة جانبا، قدروا لكل من المرشحين، عبد الفتاح السيسي وحمدين صباحي، جسارة الاستجابة لاستحقاق انتخاباتٍ الفائز الحقيقي فيها هي مصر الديمقراطية، وانحازوا إلى الوطن قبل المرشح، للإنجاز قبل البلاغة. حسم اختيارهم الرهان على من يتوسمون فيه القدرة على حمل أعباء مسؤولية انتشال الدولة من الفوضى وفرض العدل والنظام بالقانون والقوة.

عزز فرص نجاح السيسي اعتبارات الخبرة العملية الناجحة في إدارة إحدى كبرى مؤسسات الدولة من واقع نجاحه في استعادة كفاءة القوات المسلحة في زمن قياسي وظروف بالغة الصعوبة، وجسارة انحيازه إلى الشعب في وقت بدت فيه البلاد على شفا اقتتال أهلي مع تصاعد خطر فتنة التطرف والإرهاب، مما بدا دليلا معتبرا على تمتعه برؤية استراتيجية ومهارة في القيادة والمبادأة وحسن التقدير والتدبير جرى اختبارها عمليا، وجسارة في اتخاذ القرارات الحاسمة حال تعرض الوطن للخطر، مما يوفر له مساندة شعبية قوية تعزز قدرته على استعادة كفاءة مؤسسات الدولة في أداء مهامها لخدمة مواطنيها وحمايتهم من مخاطر الترويع والإرهاب وردع قوى الفساد والإفساد والفوضى والبلطجة.

لم ينسَ المصريون للسيسي تصديه مبكرا لحماية حدود مصر، وإنقاذ الوطن من مخاطر فوضى تهدد استقراره إبان محنة حكم «الإخوان»، وعدم انصياعه لإلحاح محاولات التأثير الخارجي على استقلال القرار الوطني، ونجاحه في حشد مساندة إقليمية ودولية أسهمت في إعادة التوازن إلى علاقات مصر الخارجية بما عزز مكانتها على الصعيدين الإقليمي والدولي.

راهن المصريون على أن تمتع السيسي بهذه المؤهلات يعزز فرص نجاحه في استعادة نموذج الدولة الوطنية القوية، الواعية لمسؤولياتها تجاه مواطنيها، المدركة لمكانتها، الواثقة بقدرات أبنائها، القادرة على حشد طاقاتهم، لا الدولة الغائبة أو الرخوة التي لا تقوى على الوفاء بمتطلبات تنمية شاملة تنحاز إلى الطبقات الشعبية الأولى بالرعاية، وتسعى لحمايتهم ودعمهم اقتصاديا واجتماعيا، وضمان حقهم في حياة كريمة تكفل فرصا متكافئة في التعليم والعمل والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي.

وجاءت البشارة للسيسي مبكرة من المصريين في الخارج الذين جاءت أصواتهم لصالحه بتفوق ساحق، قبل نحو أسبوع من بدء إجراءات تصويت المواطنين في الداخل، وبدت رسالتهم واضحة للعالم كله؛ أن المصريين لا يقيمون وزنا كبيرا لحملات الإعلام الغربي ضد المرشح القادم من المؤسسة العسكرية، ولا حتى لما تردده أحزاب وقوى سياسية في الداخل تتبنى الخطاب ذاته.

ولم يلبث أن فضح تصويت المصريين في الداخل ما تعانيه الأحزاب والقوى السياسية من انكشاف في الشارع، الذي بدا منصرفا تماما عن خطابها السياسي ومنحازا من دون مواربة إلى مرشح بدت هذه القوى مترددة في دعمه، مما يؤكد أن خواء السياسة هو من استدعى في السابق سطوة العصبيات القبلية وعزز نفوذ «الإخوان» والسلفيين وغيرهم، وفرض لاحقا دورا قويا للدولة لملء هذا الفراغ.

لكن الخطر يبقى ماثلا من ظاهرة تنحي السياسة عن المشهد، فما قد يفلح في عبور مأزق انتخابات الرئاسة لن يكون بالضرورة قابلا للتكرار مع انتخابات برلمانية تبدو وشيكة، وحكومة تعكس توازنات خريطة القوى السياسية الجديدة.

* إعلامي مصري