«عودة» مصر.. المطلوب رافعة عربية للجميع وغير محورية

TT

ينسب إلى نابليون بونابارت أنه قال، بينما كان سجينًا ومنفيًّا في جزيرة سانت هيلانة، إن أكبر خطأ ارتكبه خلال حياته العسكرية أنه سحب القوات الفرنسية من مصر بعد عودته إلى بلده فرنسا، فأرض الكنانة، حسب رأيه، هي أهم موقع استراتيجي في العالم، إذ إنها تتحكم بالطرق المؤدية إلى آسيا وأوروبا وأفريقيا، وإن السيطرة عليها تعني السيطرة على المراكز الرئيسية في أهم المنافذ البحرية بين هذه القارات.

وبغض النظر عن رأي نابليون هذا، على أهميته، فإن مكانة مصر لا تعود فقط إلى المراحل المتأخرة من الغزو الاستعماري لمنطقتنا العربية وللشرق كله حتى الهند والصين واليابان وأستراليا ونيوزيلندا، بل إلى تاريخٍ أبعد كثيرًا عندما استهدفتها الغزوات «الصليبية» وعندما قصدها اليونانيون والرومان وعندما أصبحت قاعدة رئيسية للتواصل بين مغرب الخلافات الإسلامية المتلاحقة ومشرقها وأصبحت القاهرة عاصمة الدولة الفاطمية.

ونحن هنا لا نريد الاستطراد في الحديث عن أهمية مصر على مدى حقب التاريخ المتلاحقة منذ غزو «الهكسوس» وحتى الآن، فما يهمنا هو أن أرض الكنانة بموقعها الجغرافي وبنيلها وحضارتها المتواصلة منذ عهد الفراعنة وبشعبها المبدع دائمًا وأبدًا هي نقطة الارتكاز الرئيسية لهذه المنطقة، إن في الحرب وإن في السلم، ولعل ما لا يعرفه كثيرون هو أنَّ عشرات الألوف من المصريين قد استشهدوا في جزيرة القرم على البحر الأسود خلال أكثر الحروب دموية بين روسيا القيصرية والإمبراطورية العثمانية.

وكل هذا والمعروف بالنسبة للصراع العربي - الإسرائيلي ولكل الصراعات الإقليمية الأخرى أنه «لا حرب ولا سلام بلا مصر»، وأنه لا وحدة من دونها، وأنه إذا مرضت مصر مرض العرب كلهم، وإذا غابت أرض الكنانة غاب القرار العربي الموحد، وهذا هو ما حصل في الأعوام الأخيرة بعد اتفاقيات كامب ديفيد في نهايات سبعينات القرن الماضي وبعد ذلك بعدما استطال حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك وأصبح هو أسير نزوات وفساد بعض المحيطين به ثم بعد اختطاف الإخوان المسلمين لثورة الخامس والعشرين من يناير (كانون الثاني)، بمساندة أميركية سرية وعلنية، وأصبح الحكم ليس لـ«الشيخ» محمد مرسي وإنما للتنظيم الدولي ومرشده العام محمد بديع ولـ«عالم العلماء»!! يوسف القرضاوي الذي ظن في تلك اللحظة المريضة العابرة أنه بات ظل الله على الأرض.. ونسأل الله العفو والمغفرة.

خلال غياب مصر ومرضها واختطافها، ليس في السنوات الثلاث الأخيرة فقط، بل في حقيقة الأمر في وقت أبكر كثيرًا، بدايته كانت عندما فرض العرب العزلة عليها وعلى شعبها في قمة بغداد، سيئة الصيت والسمعة، وعندما «هربوا»، أي العرب، بجامعتهم من القاهرة إلى تونس ردًّا على خطوة السادات التي أثبتت الأيام صحتها وأهميتها بفتح أبواب السلام لحل أزمة الشرق الأوسط واستعادة قناة السويس واسترجاع شبه جزيرة سيناء حتى آخر ذرة رملٍ فيها.

وحقيقة أن العرب في تلك اللحظة المصيرية قد انجرّوا وراء أصحاب الأصوات المرتفعة وبعض المزايدين على بعضهم بعضًا، وقد أساءوا في القرارات التي اتخذوها في قمة بغداد إلى مصر بتاريخها العظيم وبشعبها وبطولات جيشها، وبخاصة في فلسطين، تلك القرارات التي كانت في حقيقة الأمر قرارات حافظ الأسد من جهة، وقرارات صدام حسين من جهة أخرى، وبمشاركة معمر القذافي ومعه الذين أوصلوا بلدانهم إلى كل هذا الخراب الذي نراه الآن كاليمن «السعيد»!! الذي كان في ذلك الوقت دولتين «ثوريتين» كل واحدة منهما تزايد على الأخرى.

كان على العرب، إن في قمة بغداد وإن خارجها، بدل اتخاذ تلك القرارات الارتجالية التي اتخذوها أنْ يحتضنوا الشعب المصري وأن يلتفُّوا حول أنور السادات ليتفهموا وجهة نظره وليُفهموه وجهة نظرهم، وكان عليهم أن يعززوا ويمتِّنوا موقفه في التفاوض مع الإسرائيليين الذي كان أصعب من خرط «القتاد»، كما كان عليهم أن يُفهموا العالم كله وفي مقدمته الولايات المتحدة أنهم مع السلام وأنه على إسرائيل أن تدرك أنها لن تستطيع الاستفراد بالرئيس المصري وأنه لا حل لأزمة الشرق الأوسط، التي سببها احتلالهم، ما لم تتحقق مطالب الشعب الفلسطيني المشروعة، وما لم ينسحب الإسرائيليون انسحابًا كاملاً من جميع الأراضي العربية التي احتلوها في يونيو (حزيران) عام 1967.

إن هذا لم يحصل، ولذلك فقد انفرد الإسرائيليون بمصر، وقد جاء كل هذا التطاول الذي تقوم به إيران الآن على العرب كلهم من «محيطهم الهادر» حتى «خليجهم الثائر»!! والسبب هو غياب أرض الكنانة التي أدى غيابها إلى غياب التنسيق العربي الواحد وإلى غياب الوجدان العربي الموحد، ويقينًا أنه لو لمْ تمرض أرض الكنانة كل ذلك المرض الذي تواصل في آخر حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك ولم تُخْتَطف من قبل الإخوان المسلمين وإنْ لفترة قصيرة فإنه ما كان بالإمكان أن يسْقط العراق في قبضة الولي الفقيه وحراس الثورة الإيرانية، وأنه ما كان بالإمكان أن يتحكم الإيرانيون بسوريا التي سنبقى نصرّ على أنها «قلب العروبة النابض»، وذلك رغم تحولها في عهد هذا النظام الطائفي البائس إلى ساحة «يطارِدُ» فيها فيلق القدس الإيراني كما يحلو له وتسرح وتمرح، في دمشق عاصمة الأمويين، كل هذه الشراذم المذهبية المستوردة من العراق ومن الجمهورية الخمينية ومن الباكستان وأفغانستان واليمن ولبنان وكل حدب وصوب.

لقد قال كبير مستشاري مرشد الثورة علي خامنئي قبل أيام إن حدود بلاده، أي الإمبراطورية الفارسية الجديدة، قد أصبحت على شواطئ البحر الأبيض المتوسط عبر الجنوب اللبناني، ويقينًا أنه ما كان بإمكان هذا قول مثل هذا الكلام الخطير لو أن الولي الفقيه لا يشعر أن بإمكانه أن يفعل ما يشاء وأن يتمدد في المنطقة العربية كما يحلو له وكما يريد ما دام أن مصر غائبة وما دام أن العرب مبعثرون على هذا النحو.. وحقيقة أنه كان بإمكان إيران أنْ تحقق أكثر كثيرًا من كل هذا الذي حققته لو لم تشكل المملكة العربية السعودية بقيادتها وشعبها وجيشها وإمكانياتها جدار الصدِّ الذي حافظ ولا يزال يحافظ على الخليج العربي بكل دوله ونهضته وخيراته.

ثم إن الأخطر هو أن العرب خلال تلك اللحظة المريضة التي غابت فيها مصر وغاب فيها الوجدان العربي الموحد قد تحولوا، تحت ضغط مزايدات المزايدين، إلى «قيس ويمن» وإلى محاور وتكتلات متخاصمة ومتنازعة، وهذا في حقيقة الأمر أيضا هو ما جعل المؤلفة قلوبهم طائفيًّا وسياسيًّا يتجهون نحو إيران، وجعل بعض من جاء بهم بول بريمر ليحكموا العراق، بعد «فَرْطِ» دولتها وجيشها وإدارتها وأجهزتها الأمنية وتماسكها الوطني، ومعهم هذا الطائفي الذي بات يقترب من نهايته في سوريا يعملون كمجرد «وكلاء» لمرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي وخاضعين خضوعًا ذليلاً لقائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني.

ولهذا، وعندما يقول الرئيس السيسي وعلى رؤوس الأشهاد: «مسافة السِّكة»، والمقصود هو تحرك الجيش المصري على الفور إذا تعرض أمن العرب وأمن الخليج العربي بصورة خاصة لأي تهديد إيراني فعلي، فإنه قبل تنفيذ هذا الذي وعد به يجب أن يطمئن على جبهة مصر الداخلية وعلى أوضاعها الاقتصادية، وهذا يتطلب أن تتحرك الدول العربية المعنية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية لإنشاء جبهة مساندة فعلية تضم أيضا المملكة المغربية ذات المواقف الواضحة والتي تشكل قطبًا عربيًّا فاعلاً له حضوره الأفريقي والأوروبي والدولي الذي لا يمكن تجاهله أو الاستغناء عنه.

لقد انتهت مرحلة اختلاط الألوان التي سادت خلال الأعوام الماضية، حيث كانت أرض الكنانة منكفئة على ذاتها، وكانت إما مريضة نظرًا لانشغال رئيسها الأسبق بمرضه وشيخوخته وأوجاعه، وإما مختطفة بعد اختلاس الإخوان المسلمين لثورة الخامس والعشرين من يناير وسيطرتهم، بمساعدة الولايات المتحدة الأميركية ومساندة إيران وبعض دول الخليج العربي، على الحكم.. لقد انتهت هذه المرحلة وبدأت مرحلة جديدة بمعطيات غير المعطيات السابقة، وهذا يقتضي أن تأخذ هذه «الشقيقة» الكبرى موقعها التاريخي على الخريطة العربية، وهو يتطلب أن تبرز وبسرعة كتلة عربية طليعية تشكل رافعة للعرب كلهم تضم بالإضافة إلى مصر والمملكة العربية السعودية الأردن والمملكة المغربية ودولة الإمارات والبحرين والكويت.. وكل مَنْ قد يصبح مؤهلاً من العرب الآخرين.

إنها ستكون جريمة العصر بالفعل أنْ تبقى مصر تسمع كلامًا جميلاً وأقوالاً ولا ترى أفعالاً، وحقيقة أن هذا ما كان قَصَده خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز في تصريحاته الصادقة الصادرة من القلب التي أدلى بها بعد فوز الرئيس عبد الفتاح السيسي في الانتخابات الأخيرة، فمن دون مصر لن تكون هناك «الرافعة» العربية التي من المفترض أن يستند إليها العرب لينهضوا من هذه الكبوة الخطيرة، ولن تكون هناك «المجموعة» الطلائعية التي من المفترض أن تنتشل هذه الأمة من المستنقع الطائفي التي نجحت إيران ونجح الطائفيون والمذهبيون في إغراقها فيه.