جسر مصري خليجي لمواجهة الفوضى الزاحفة

TT

اختار عبد الفتاح السيسي أن يدشن أول عملية في تاريخ مصر للتسلم والتسليم وتبادل السلطة سلميا، عبر ثلاث بوابات تمثل رموزا أساسية لديمقراطية الدولة، وتؤكد الحرص على احترام قواعد التعاقب في المسؤولية بروح من التعاون والتفاهم والوحدة، وهذا مؤشر يكتسب أهمية كبيرة سواء لمصر أم للمنطقة العربية.

ليس خافيا أن استعادة الثورة المصرية من دهاليز «الإخوان المسلمين» وتصويب مسار «الربيع المصري» على أسس من احترام الديمقراطية، سيرسمان مسارا يحتذى به للدول العربية التي تحول ربيعها إلى عاصفة من المآسي الدموية، على ما يجري في ليبيا، وإلى حد ما في تونس، وفي سوريا الغارقة في شتاء دموي طويل!

كانت المناسبة تاريخية في بواباتها الثلاث؛ أولا: عندما ذهب السيسي إلى «بيت الدستور» (المحكمة الدستورية) ليقسم اليمين الدستورية في موقعها الصحيح في جو مهيب. وثانيا: عندما انتقل إلى قصر الاتحادية ليتسلم الحكم من عدلي منصور. وثالثا: عندما وقف في قصر القبة وألقى خطاب العهد، الذي شكل برنامج عمل طموحا، وتضمن رسائل كثيرة إلى المنطقة والإقليم، وهذا أمر ضروري، فمصر دولة محورية لها وزنها ودورها في المنطقة.

مهمات السيسي ليست سهلة، وخصوصا في مواجهة أمرين، هما: الأمن الذي سيحاول الإخوان والذين يحركونهم من الخارج استمرار العبث به، والاقتصاد الذي يواجه صعوبات لن تحلها المساعدات الخليجية السخية، وإن كانت ضرورية للمساعدة على إطلاق دورة جديدة لتحفيز القطاعات الإنتاجية التي أشار إليها السيسي.

لكن ما يتوافر له من عناصر النجاح لم يتوافر للذين سبقوه وأورثوا مصر تركة ثقيلة، فحسني مبارك أدار دولة متكاسلة نخرها الفساد، وجاء محمد مرسي ليدير دولة «الحصرية الإخوانية» التي تقوم على الاستئثار، والقبض إلى مفاصل السلطة، وإسقاط مبدأ المشاركة الديمقراطية، بما يعني وأد الثورة وطموح شباب مصر.

لكي ينجح السيسي في إعادة الدور المحوري الفاعل لمصر على المستوى الإقليمي، من الضروري أن ينجح في إطلاق ورشة داخلية نشيطة للنهوض الاقتصادي، فمصر التي تنتج من الأفواه أكثر مما تنتج من الأرغفة، بلد يستطيع أن ينهض، وله كل العناصر والمقومات التي تساعده على استنساخ نهضة دول الاقتصادات الناشئة كالبرازيل وتركيا.

في هذا السياق تحديدا تكتسب دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى عقد مؤتمر اقتصادي لدعم مصر أهمية كبيرة، لأنها تؤسس لمشروع مارشال عربي ينتشل الاقتصاد المصري، وما يشجع على هذا تجاوب دولة الإمارات الحار، وقد أكده اجتماع ولي عهدها الشيخ محمد بن زايد مع الملك عبد الله بن عبد العزيز ومع السيسي، أضف إلى ذلك التجاوب الكويتي الذي برز من خلال حرص الشيخ صباح على حضور احتفال التسليم والتسلم وتأكيده على دعم مصر.

النهوض المصري ضروري جدا لكي تكتسب رسائل السيسي زخمها وفعاليتها، وخصوصا عندما يقول إن «الأمن القومي العربي خط أحمر (...) وإن أمن الخليج من أمن مصر»، وهذا كلام كان له صداه الفوري في طهران، التي حاولت عبر محمد مرسي تغيير قواعد هذه المعادلة، والدليل أن نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الذي حضر الحفل رد بالقول إن «أمن إيران من أمن مصر، وأمن مصر من أمن الخليج الفارسي»، وعندما قيل له إن كلمة «الخليج الفارسي» تثير الحساسية، رد بأنه «يجب تسمية الأشياء بأسمائها»، وهو ما يعطي أهمية مضاعفة لحديث السيسي عن ارتباط أمن الخليج بأمن مصر.

السيسي حرص على مخاطبة إدارة باراك أوباما من دون تسميتها بالقول إن «زمن التبعية قد انتهى»، في إشارة صريحة إلى أن محاولة واشنطن استرهان مصر لقاء حفنة من الدولارات، ومحاولة أخونة المنطقة عبر ترسيخ استيلاء «الإخوان المسلمين» على الحكم، أمر من الماضي.

في إطار حرصه على ترسيخ العقد الاجتماعي الداخلي على أسس من الوحدة وتماسك الشعب، كان واضحا في توكيده على أن الخلاف يجب أن يكون من أجل الوطن لا على الوطن، وفي استعادته كلام محمد عبده الذي قال: «لقد وجدت في الغرب إسلاما بلا مسلمين، وأجد في الشرق مسلمين بلا إسلام».

نجاح السيسي ليس ضروريا لنهوض مصر وانتشالها من أزماتها فحسب، بل هو ضروري لمنع انزلاق المنطقة كلها إلى الفوضى المفتعلة، التي تسهل انقضاض القوى الإقليمية والدولية عليها. إن ما يجري في ليبيا ويهدد المغرب العربي، وما يجري في سوريا والعراق واليمن ويهدد المشرق العربي، يحتم قيام دولة مصر القوية والمحورية، التي تستطيع بالتعاون مع السعودية ودول الخليج مواجهة الأخطار الداهمة التي تتهدد المنطقة من المحيط إلى الخليج!