ما الذي يجري في جنوب شرقي تركيا؟

TT

عادت الاشتباكات والمواجهات مجددا إلى مناطق جنوب شرقي تركيا المعروفة بكثافتها السكانية الكردية بعد عامين من الهدوء والهدنة الأمنية مع حزب العمال الكردستاني التي سبقها هدنة سياسية مع عبد الله أوجلان الموجود في سجنه منذ 15 عاما.

يبدو أن الهدوء الذي اختاره الجانبان في العامين الأخيرين لم يكن كافيا لحسم الموقف في منطقة تفرض على الكثيرين العيش فوق فوهة البركان الجاهز دوما للانفجار.

هل لما يجري علاقة مباشرة بتراجع نفوذ حزب العمال الكردستاني وقدرته على الإمساك بخيوط اللعبة على الأرض والتأثير على قرار القاعدة الشعبية الكردية في تركيا، أم أن حكومة رجب طيب إردوغان فشلت حقا في الاستجابة لنداءات أكرادها ومطالبهم وعجزت في خطة الحؤول دون عودتهم للاحتكام إلى الشارع مجددا؟

لماذا قطع الطرقات الرئيسة المحيطة بمدينة دياربكر التي تربط أهم مدن جنوب شرقي تركيا بعضها ببعض؟ ولماذا احتجاز بعض الموظفين والعمال الحكوميين الذي يقومون بأعمال ترميم وصيانة في هذه الأماكن وإحراق سياراتهم الحكومية؟

ما الذي يعنيه مهاجمة الجنود الأتراك في ليجا وسقوط قتلى وجرحى بعد أشهر طويلة من قرار وقف إطلاق النار وتجميد العمليات القتالية؟

لماذا تعتصم وتتظاهر العشرات من الأمهات الكرديات أمام مبنى بلدية دياربكر للمطالبة بإعادة أبنائهن الموجودين في صفوف حزب العمال الكردستاني وبينهم من هم تحت سن الـ18؟

التصعيد الأخير يطرح أكثر من سيناريو مرتبط بالداخل التركي والمحيط الإقليمي كما يبدو، وهو أكثر من أن يكون مجرد انتكاسة أمنية محدودة.

الرسائل الإيجابية التي لا ينفك أوجلان عن توجيهها إلى الجميع وتمسكه بالمسار الكردي الذي بدأه مع أنقرة، تؤكد أن الهدنة المعلنة بين الجانبين قائمة ومستمرة، وأن العمال الكردستاني غير قادر على الابتعاد كثيرا عن تعليمات زعيمه ونصائحه، وأن يتحرك بعكس مسار الحوار الذي يخوضه مع قيادات العدالة والتنمية باتجاه فتح صفحة جديدة من العلاقات بين تركيا وأكرادها.

ما يجري هو جزء من مناورة سياسية تتضمن لعب ورقة الشارع بهدف الضغط على حكومة «العدالة والتنمية» للإسراع في إطلاق خارطة الطريق التي طال انتظارها والبلاد تقف على عتبة الانتخابات الرئاسية التي لا بد من استغلالها كرديا.

كلا الطرفين يتبادلان التهم ويحمل بعضهما البعض مسؤولية هذا التصعيد، لكنهما يعرفان جيدا الحدود الواجب التوقف عندها في الاستفزاز والتصعيد. أقرب أعوان إردوغان الوزير المكلف بتولي عملية الحوار مع أوجلان والقيادات الكردية بشير أتلاي يقول إنه لا تراجع عن خيار الاستمرار في المحادثات وإننا اقتربنا من موعد إعلان تفاصيل خارطة الطريق والخطوات العملية التي سيتم اتخاذها والجدول الزمني لهذه القرارات، وإن التوتر الحاصل في بعض مدن جنوب شرقي تركيا سببه محاولات الضغط على الحكومة قبيل الانتخابات الرئاسية وانزعاج البعض من هذا المسار ومحاولة قطع الطريق عليه.

أما القيادات السياسية الكردية فهي تحاول أن ترمي الكرة في ملعب إردوغان الذي وعد قبل عامين ولم ينفذ وعوده حتى اليوم، لذلك فهو الوحيد الذي يتحمل مسؤولية تراجع فرص السلام وتزايد التوتر ومضي الشبان في البحث عن طريق الجبال والعودة إلى لغة البندقية.

الأكراد، وكما يبدو، لا يريدون أن يفوِّتوا مثل هذه الفرصة الذهبية التي ستساعدهم حتما على الضغط ميدانيا أكثر فأكثر على إردوغان وحكومته، خصوصا إذا ما كان يستعد لإعلان ترشحه لهذا المنصب، وسياسيا لانتزاع التعهدات المحددة والملزمة بعدما طال الانتظار.

استراتيجية تحرك أكراد تركيا رغم كل رسائل أوجلان الإيجابية ودعوة مناصريه لعدم التخلي عن المسار المعلن بدأت مع الإعلان عن الاستعداد لخوض معركة انتخابات الرئاسة من خلال شخصية سياسية كردية رغم أنهم تركوا الباب مفتوحا أمام الحكم والمعارضة على السواء للدخول في مساومات ودعم من يقدم لهم ما يرضيهم سياسيا ودستوريا في الملف الكردي.

خيار آخر يلوِّح به بعض صقور «السلام والديمقراطية» الكردي، أنهم في حال لم يحصلوا على ضمانات كافية ترضيهم وتطمئنهم فإنهم لن يترددوا في مقاطعة صناديق الاقتراع والامتناع عن المشاركة في الانتخابات.

فأكراد تركيا يعرفون تماما أن حزب الشعب الجمهوري المعارض الذي يعاني من مشكلة غيابه الكلي عن ساحات ومدن جنوب شرقي تركيا سيتحرك هو الآخر لتقديم الوعود والتعهدات، وهي فرصة أخرى لن تفرط فيها القيادات الكردية على طريق محاولات توحيد المعارضة وراء مرشح مشترك في وجه إردوغان وحكومة العدالة والتنمية.

قنديل لا تريد إحراق أوراق إردوغان السياسية، لكنها تريد انتزاع ما يطمئنها مستغلة الظروف الداخلية والإقليمية التي تساعدها على ذلك.

حزب الشعب الديمقراطي الذي دعاه أوجلان ليكون المدافع الجديد عن المشروع السياسي الكردي يعقد اجتماع كتلته البرلمانية في دياربكر تحديا وردا على ما وصفه بالاستفزاز ومحاولة عسكرة المنطقة مجددا ومحاولات اختبار صبرهم وتفهمهم. ربما ما أغضب العمال الكردستاني هو أيضا محاولة الالتفاف سياسيا عليه واستبعاده عن مسار الحوار الجديد الذي انطلق في دياربكر عبر ورشة عمل شارك فيها العشرات من القيادات السياسية والمقربين من الحكومة ومقاطعتها الأحزاب الكردية الرئيسة في تركيا.

رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني الذي يدعو أكراد تركيا لعدم الاحتكام للبندقية والسلاح يهدد في الوقت نفسه شريكه المفترض نوري المالكي والحكومة المركزية في بغداد بالذهاب إلى إجراء استفتاء بشأن انفصال الإقليم عن العراق في حال تولي المالكي رئاسة الحكومة لولاية ثالثة.

معادلة بارزاني هذه أيضا تقلق البعض داخل تركيا الذين يحذرون من أن شراكة مع أربيل من هذا النوع والحصول على دعمها في أغسطس (آب) المقبل قد يكون ثمنها فتح الطريق أمام إعلان الدولة الكردية في شمال العراق.

وزير الداخلية التركي أفكان ألا يقول: نحن نبني تركيا الجديدة ولا بد أن يأخذ الأكراد مكانهم ودورهم في هذا المشروع، لكن دياربكر تريد أن تعرف مصيرها ومستقبلها السياسي والدستوري في المرحلة المقبلة، وهي لم تعد تريد أن تنتظر أكثر من قرن على وعود التدقيق ومراجعة المعادلات والخرائط الإقليمية الجديدة.

وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو تحدث في الأيام الأخيرة عن «المطبات الجوية» التي وقعت فيها الكثير من دول المنطقة، وأن مفتاح الاستقرار هو أن تربح القيادات السياسية والحزبية شعوبها إلى جانبها وتفتح الطريق أمامها للمشاركة الفعلية في المسارات الديمقراطية وتفعيل دورها. «ما الذي نريده ونبحث عنه في المنطقة اليوم؟ هل هو الاستقرار المؤقت القصير المدى أم الاستقرار الدائم البعيد المدى؟». هل طرح داود أوغلو هذا هو مقدمة للدخول في المساومة التاريخية مع أوجلان الذي رشحه البعض لنوبل هذا العام وربما هو يبحث عن شريك يقاسمه الجائزة؟