كرة اللهب.. «داعش»

TT

يبدو أن كلمة المرشد العام للثورة الإسلامية بإيران علي خامنئي خلال لقائه أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد، قبل أيام، تنطوي على كثير من المؤشرات التي تعطي تصورا مبدئيا للرؤية الإيرانية المستقبلية حول مسار الصراع القائم بالمنطقة، وهو الأمر الذي بدأت ملامحه تتضح مع ما يحدث في العراق اليوم من معارك يخوضها تنظيم «داعش» ضد الجيش العراقي وحكومته، التي يقودها المالكي، رجل إيران الأوحد بالعراق.

عبارة خامنئي التي تحدث بها عن أن «من يدعم الإرهاب سوف يضطر لدفع ثمن باهظ»، هو حديث التنبه لخطورة الإرهاب، في ظاهره، إلا أنه، في باطنه، لا يخلو من لغة التهديد، بأن السلاح الإيراني بالمرحلة المقبلة سيكون الضغط على المنطقة، من خلال الجماعات الإرهابية، لجعل هذه الجماعات تلعب لصالح إيران ضد بعض الأطراف التي طالما اتهمتها إيران بدعم الإرهاب والتطرف، وفي مقدمتها دول الخليج.

التلويح بورقة الإرهاب واستخدام الجماعات المتطرفة ليس بالأمر الجديد بالنسبة لإيران، لأنها لم تكن بمعزل عن اللعب بورقة التطرف لصالحها، منذ أن كانت تقبل لقادة «القاعدة» وطالبان الوجود على أراضيها، بعد الهجوم الأميركي على أفغانستان. هذا بالإضافة لكثير من التقارير الاستخباراتية التي تحدثت عن تلقي بن لادن العلاج على الأراضي الإيرانية. إلا أن الجديد في الأمر هو تغيير خارطة حركة الجماعات الإرهابية بشكل يخدم المصالح الإيرانية في مرحلة ما بعد سوريا، تتجاوز بتقنياتها مستوى السيارات المفخخة والعبوات اللاصقة لتصبح بمستوى عمليات عسكرية منظمة في مساحة جغرافية جديدة أكثر قربا لمنطقة الخليج دون غيرها، بما يعني تهديدا مباشرا لأمنها.

فـ«داعش» اليوم لا تقاتل في سوريا فقط، أي على مسافة بعيدة من الحدود الخليجية، بل هي اليوم تحتل مناطق تمتد صحراؤها لغاية حدود السعودية، الأمر الذي يترجم حقيقة اللعب بورقة الإرهاب ضد منطقة الخليج برمتها، في حالة جرى تضييق الخناق على «داعش» بداخل العراق، وإجباره على النزوح من المدن والقرى التي احتلها، مما يعني فتح جبهة مواجهة عسكرية بداخل الحدود الخليجية.

لم يمر أكثر من 48 ساعة على توقيت هجوم «داعش» على الموصل وكركوك بهذا الشكل المباغت، وانسحاب الجيش العراقي المفاجئ وبشكله غير المفهوم، حتى أصبح العالم بمجمله يتحدث عن خطورة الموقف وتداعياته، وضرورة الوقوف صفا واحدا لمواجهة «داعش»، بداية من الأميركي الذي عزز من وجوده بإرسال بعض القوات دعما، إلى الروسي الذي تحدث عن خطورة تقسيم العراق، إلى التركي الذي وجد نفسه قد أصبح محرجا أمام نفسه بعد اختطاف «داعش» لمجموعة من الأتراك، مما يعني أن موقف الحياد قد يحرج الحكومة التركية داخليا.

أما على المستوى السياسي للداخل العراقي، فهناك أبعاد أخرى لمناورة «داعش» واحتلاله لمناطق عراقية، وبلوغه بالقتال حدود العاصمة بغداد، تتمثل بأكبر عملية إنقاذ للمالكي، إذ إن ما حدث قد مكنه من الانتقال ليصبح القائد الأوحد والضرورة للعراق، بعد أن كان يبحث عن حلفاء لتشكيل الحكومة العراقية، فخلال ساعات حصد المالكي أكبر نتائج سياسية يحلم من هو بموقعه بأن يحصدها، خصوصا أنها كانت بعيدة المنال والتحقق، فها هو بعد احتلال «داعش» للموصل وكركوك ينال تأييد السيد علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى بالعالم، بعد أن كان المالكي وأغلب القادة السياسيين بالعراق (إن لم يكن جميعهم) يحلمون باستقبال المرجعية لهم قبل وخلال وبعد الانتخابات. هذا بالإضافة إلى التيار الصدري، الذي أعلن تشكيل جيش السلام، ورفع الحظر عن ميليشياته العسكرية، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية الذي صرح قائده السيد عمار الحكيم، بأنه سيقاتل «داعش» بنفسه.

الطوائف الشيعية اليوم مجبرة على مواجهة مصيرها في معركة «داعش» التي بدأت إعداماتها العشوائية دون محاكمات، وبالتالي، فإن المالكي اليوم يحصد نتائج هذا الهجوم بكسب كل المعارضين ليقفوا بصفه، بعد أن كانوا يعارضونه وحكومته.

خلق «عفريت» طائفي خارجي يلوح بحرب طائفية ضد كل من يختلف معه، كتنظيم داعش، يدفع الطيف الشيعي إلى التفكير في خياراته للبقاء على قيد الحياة، من خلال الالتفاف حول بعضه بعضا للدفاع عن نفسه، وبالتالي فإن الالتفاف سيكون لصالح المالكي بالدرجة الأولى، بوصفه رئيسا للوزراء!

على جهة الإقليم السني العربي، فإن الهجوم المباغت لـ«داعش»، وضعه بين خيارات ثلاثة؛ فإما القبول بالمالكي والمشروع الإيراني، أو مواجهة الحكومة بالسلاح، أي القتال بصف «داعش»، أو الاحتمال الثالث الأصعب، وهو بقاء الإقليم السني بلا غطاء أمني ليواجه مصيره وحيدا بالدفاع عن نفسه، والوقوف أمام تنظيم دموي كـ«داعش»، لديه القابلية والقدرة على الصدام مع الكل، ولا يقيم وزنا للإنسان لا حرثا ولا نسلا. وهنا يتكرر السيناريو السوري بالمعارك، التي دارت بين «داعش» والنصرة والجيش الحر، بشكل عزز من مواجهة الأسد للثورة.

كما أن المماطلة بإعادة الجيش العراقي للمواجهة مع «داعش» بهذا الشكل والاستغاثة بالبيشمركة الكردية، هي إعفاء للجيش العراقي من المواجهة المباشرة مع «داعش»، والغرق بمستنقعها، وإجبار الكردي بالمقابل على الدفاع عن نفسه ضد «داعش»، وبالتالي تقليم الأظافر التي كان يستخدمها الأكراد للضغط على بغداد، على مدى سنوات تأمينا لمصالحهم.

من الخطأ بمكان اعتقاد أن ما يحدث في العراق اليوم هو ربيع عراقي، يشبه ما كان قد حدث ببعض الدول العربية، لدرجة تهليل البعض على أنها ثورة السنة ضد الشيعة، وهو الأمر الذي يصب بصالح الإيرانيين بالدرجة الأولى. إن ما يحدث اليوم في العراق توريط للسنة بحرب خاسرة ومناورة سياسية وعسكرية إيرانية باستخدام «داعش»، من أجل إعادة ترتيب الأوراق الجيوسياسية لضمان طريق سالك من طهران، ولغاية البحر الأبيض المتوسط، دون عوائق، عبر العراق وسوريا ولبنان.

هناك مخطط إيراني أكبر بأهدافه ونتائجه من هذا الترويج العاطفي لأحداث العراق اليوم، وصبغها بصبغة طائفية، يجبر المنطقة برمتها على الوقوع في فخ لعبة الخيارات الضيقة التي طالما كان الإيرانيون صنّاعها، لترتيب أوراقهم بالمنطقة، وخصوصا البيت السياسي العراقي بالمرحلة المقبلة، باعتباره البيت «العقدة» الذي تعتبر السيطرة عليه مفتاحا للسيطرة على كثير من أوراق المنطقة، ليبقى العراق بالنسبة للدولة الإيرانية هو الخطر الحقيقي الذي طالما هدد مصير وجودها وعامل استقرارها، سواء كان عراقا شيعيا أو سنيا.