الدولة المستقيلة

TT

أيام ما عرف «بالمارونية السياسية» في لبنان، كانت الخلفية المبطنة لدعوة الأحزاب المسيحية إلى «لبننة» اللبنانيين على حساب عروبتهم هي المحافظة على امتيازات طبقتهم الحاكمة بفضل نظام التمييز المذهبي (الأبارتايد) الذي أرسى قواعده الانتداب الفرنسي... وأساء إدارته المستفيدون الرئيسيون منه – أي الزعامات السياسية المارونية.

واليوم، وبعد أن تحولت الأحداث الإقليمية (المذهبية والأمنية معا) إلى حافز عملي لإعادة تأكيد «لبننة» اللبنانيين والنأي بهم عن الغرق في مستنقع دول الجوار العربية، يبدو مستغربا أن تتعامل الزعامات المارونية مع الاستحقاق الرئاسي من منطلقات حزبية ضيقة تتغاضى عن كون الرئاسة اللبنانية خصصت لهم طائفيا فقط. أما دستوريا فهي لكل اللبنانيين كائنا ما كان مذهبهم.

خلافا لكل ما يقال عن ضرورة انتخاب رئيس ماروني «قوي»، لا يخفى على اللبنانيين أنه لا علاقة مباشرة أو غير مباشرة بين انتخاب رئيس جمهوريتهم والصراع على زعامة الطائفة المارونية.

وإذا كان ترشح قطبين مارونيين قويين، العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، حشر التنافس على الرئاسة بالصراع الدائر على زعامة الموارنة، فإن تداخل الصراعين بعضهما ببعض لا يخلو من تهديد غير مباشر للنظام الديمقراطي – الهش أصلا - في لبنان، خصوصا أنه يجري في أجواء وضع لبناني متردٍ، اقتصاديا ومعيشيا وحتى ديموغرافيا، ووسط وضع إقليمي متأزم يضع اللبنانيين، والمشرقيين عامة، في مواجهة خيارين سياسيين لا ثالث لهما؛ إما القبول بنظام ديكتاتوري مستبد، أو الخضوع لحكم جهادي - تكفيري أكثر استبدادا.

لبنان اليوم، رغم كل ظروفه الصعبة، لا يزال واحة استقرار وحريات نادرة في الشرق الأوسط. ولكنه واحة تحاصرها من كل حدب وصوب رمال صحراء الأوتوقراطية المتحركة بسرعة في المنطقة.

هنا يبرز دور الزعامات المارونية المدعومة بنظام محاصصة مذهبية أعطاها «مجد لبنان» – ورئاسته الأولى - في المحافظة على لبنان أولا... حرصا على «مجدها»، وأن تبدأ بتوظيف تهديدات الوضع الإقليمي المحدقة بها في خدمة استمرارية الكيان الجغرافي قبل أي اعتبار حزبي آخر، مستفيدة من السانحة التاريخية التي حوّلت مفهوم «اللبننة» من دعوة انعزالية إلى ميزة شرق أوسطية.

على هذا الصعيد تبرز أهمية تحقيق نقلة نوعية في مقاربة الزعامات المارونية لمعركة الرئاسة الأولى بحيث يتم إنجاز هذا الاستحقاق بأقل ضرر ممكن للنظام اللبناني. والخطوة الأولى على طريق هذه النقلة هذه هي «لبننة» المعركة عوض «مورنتها»... و«لبننتها» تعني إتاحة فرص الترشح للمنصب الرئاسي الأول لأي شخصية مارونية قادرة على جمع اللبنانيين لا تعميق فرقتهم.

إلا أن فرص التوافق على رئيس مقبول من معظم اللبنانيين ما زالت بعيدة المنال في ظل الوضع السائد في لبنان: فراغ دستوري في موقع الرئاسة الأولى يترافق مع خلاف محتدم على صلاحيات مجلس الوزراء في غياب رئيس منتخب ويتقاطع مع حملة مقاطعة لحق مجلس النواب بالتشريع.

باختصار، حياة لبنان السياسية تقتصر حاليا على محاولة الحفاظ على الحد الأدنى من آلية النظام الديمقراطي، ما يعني أن لبنان اليوم دولة مستقيلة من كل مسؤولياتها ومقيدة بكل صلاحياتها تواجه معركة رئاسية قد تحدد أبعادها واقع لبنان الداخلي وموقعه الإقليمي في آن واحد.

والمقلق على هذا الصعيد أن يتم «تجميد» آليات الدولة في وقت يواجه فيه لبنان انتفاضة اجتماعية لا ترحم ضائقته الاقتصادية الخانقة وسط تحولات إقليمية متسارعة قد تجد في غياب - والأصح تغييب - الدولة فرصتها للتسلل إلى داخله.

هل بات لبنان بحاجة إلى قرار شبيه بقرار سليمان الحكيم في بته لخلاف المرأتين المتخاصمتين على أمومة رضيع كفيل بإقناع الزعيمين المارونيين المتنافسين على قصر بعبدا، أن الطائفة المارونية بأكملها – لا وحدهما فقط - هي «الأم الشرعية» للمنصب الرئاسي الأول في لبنان؟

إذا كان ثمة مرجع مؤهل للقيام بهذا الدور فهو قطعا الأب الروحي للطائفة المارونية، الكاردينال بشارة الراعي.