ما وراء فرحة تنصيب السيسي

TT

الملاحظ للتغطية الصحافية، خاصة الحية، الإذاعية والتلفزيونية، لمراسم أداء الرئيس عبد الفتاح السيسي اليمين الدستورية وتسلم السلطة وتلقي الجماهير لها، موجة euphoria أو حالة الفرح شبه الهستيرية التي اجتاحت المصريين داخل مصر وخارجها وأيضا العرب، خاصة في الأماكن العامة..

التغطيات كانت عاطفية في الشبكات المصرية ومعظم الشبكات العربية التي برر مذيعوها الفرحة العامرة لغير المصريين بشعارات كـ«مصر في قلب العرب».

هناك أسباب منطقية وواقعية تبرر هذه الفرحة الطاغية فيما يعرف بـcollective conscious وعي جماعي مصري وفي البلدان العربية بإدراك منطقي كامن في اللاوعي الجماعي بأن تولي رئيس جديد للدولة المصرية لا يفتح صفحة جديدة في مصر وفي المنطقة فحسب بل للدلالة الرمزية بإحساس الأفراد، داخل الكتلة الجماعية الجماهيرية بالانتصار الذاتي حاليا على الخطر. خطر داهم لا نبالغ بالقول إن المنطقة لم تواجهه منذ تدمير التتار بغداد في 1258م واندفاعهم غربا حتى دحرهم الجيش المصري عند عين جالوت.

وما أشبه اليوم ببارحة القرن الثالث عشر، وقوى الظلام والتدمير تزحف على بغداد لتأسيس «خلافة» ظلامية في غرب العراق وأجزاء من سوريا.

وعادة لا ألتحف بنظرية المؤامرة عند مواجهة رعشات في جو سياسي مشمس، لكن هناك مؤشرات تجعلني، كمؤرخ وكصحافي وعملت مراسلا في كثير من العواصم، عاجزا عن تفسير أسباب أحداث، لكنها تبدو مرتبطة، تكون النتائج متشابهة؛ فما بالك بغفير الجماهير التي تنصرف عن الدراسات المعقدة إلى كسب لقمة العيش؟

الجيش العراقي الذي دربه الأميركيون، انهار في الموصل وفر أمام جماعات إرهابية. الجيش العراقي الذي حارب إيران ثماني سنوات، حله وسرحه الأميركيون فور سقوط نظام صدام بلا أسباب منطقية أو استراتيجية واضحة (وعدد لا بأس به من ضباطه وجنوده السابقين يحاربون الآن ضد الدولة بدلا من حمايتها من التمزق). الجيش السوري مشغول بحماية نظام بعثي آخر، ونصف سوريا ضاع أو دمر وتحت سيطرة الإرهابيين؛ الجيش الليبي انتهي، وجماعات ولدت من رحم الإخوان تمزق ليبيا، والجنرال حفتر يحاول إنقاذ البلد ويطلب دعم مصر.

ومن قبل خروج المصريين – أيضا بوعي جماعي – لإسقاط الإخوان في يونيو (حزيران) العام الماضي – يتعرض الجيش المصري (الذي حاول الإخوان فرع غزة لسنوات جره لمواجهة مع إسرائيل خرقا لمعاهدات دولية) إلى حرب استنزاف في سيناء، بتدبير الإخوان بوضعهم مئات الإرهابيين في شبه الجزيرة (ولن أستشهد بتسجيلات المخابرات المصرية لمحادثات مرسي نفسه وتورطه في دعم الإرهاب، فهذا لمقال آخر).

هناك تيار تفكير أوروبي أميركي (وبريطانيا أيضا لكن لأسباب مختلفة تتعلق بالعلاقة التاريخية بين المدرسة الاستعمارية في المخابرات البريطانية وبين جماعة الإخوان المسلمين التي لعبت دورا كبيرا في تأسيسها وتمويلها في القرن الماضي). تيار أنفقت أميركا فيه الجهد والوقت والمال ورأس حربته السفيرة الأميركية السابقة في القاهرة آن باترسون (وصفها دبلوماسي أميركي متقاعد ويتقن العربية بأنها كانت «كارثة») ومكتب السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي برئاسة كاثرين آشتون (عقب نجاح الثورة الثانية المصرية في إسقاط الإخوان اتضح أن الغرض الأساسي من زيارتها كان «الاطمئنان على مرسي» – وربما إبلاغه رسالة مشفرة - وتهديد المصريين بقطع الدعم إذا لم يدخلوا حصان طروادة الإخواني وراء سور الحصن المصري الذي أعاد الجيش والشعب بناءه، وأحرجت الدكتور محمد البرادعي في المؤتمر الصحافي منسحبة بحجة اللحاق بموعد السفر بلا إجابة عن حتى سؤال واحد).

هذا التيار «الأوروبريكي» يريد صفقة مع الإخوان المسلمين وتمكينهم من حكم مصر والمنطقة بمنطق (إما تزويرا للواقع وإما سقوطا في فخ خزانات تفكير فيها أعضاء التنظيم الدولي للإخوان متنكرين كباحثين أكاديميين) أن الإخوان «إسلام سياسي معتدل»، كما ادعت باترسون، سيتمكنون من «تلجيم» الجماعات الجهادية المتطرفة والإرهابيين، ويتعهدون بعدم استهداف المصالح الأميركية وحماس تكف عن مهاجمة إسرائيل.

وفي كتابها الصادر هذا الأسبوع تقول هيلاري كلينتون عن لقاءاتها مع مرسي عندما كانت وزيرة للخارجية الأميركية.. إنها صدمت من إجابته عندما حادثته عن خطر «القاعدة» والجماعات الإرهابية على مصر.

«:.. الرئيس المصري الجديد محمد مرسي سألته: ماذا ستفعل لكي تمنع (القاعدة) ومتطرفين آخرين من زعزعة استقرار مصر وتحديدا سيناء؟».

فكانت إجابته: «لماذا سيفعلون ذلك؟ نحن لدينا الآن حكومة إسلامية».

ووصفت كلينتون إجابة مرسي بأنها محيرة للغاية؛ إذ تقول لنفسها:

«وإذا كان يتوقع تضامنا من الإرهابيين فهو إما كان ساذجا جدا أو شريرا مخيفا».

وهنا ذكرته بواجبه كرئيس لمصر: «لا يهمني ما هي مواقفك. إنهم سوف يطاردونك. وأنت عليك أن تحمي بلدك وحكومتك». وحتى قبل أن يسقط الشعب مرسي ربطت كلينتون موقفه بسياسات سببت الانتقادات حول ما كان يجري في مصر في عهد الإخوان.

ما بين السطور أن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة بدأت تشك في ولاء الإخوان بمن فيهم رئيس الجمهورية للوطن، وهو الإدراك الذي وصل إليه المصري البسيط بحكمة متوارثة لسبعة آلاف عام من أن الرئيس المكلف بحماية الأمة خطر عليها فخرج الشعب لاسترداد الأمة منه.

وهذا الإحساس بالخطر الداهم على الوطن من ناحية، وعلى المؤسسة الوحيدة التي يطمئن إليها لبقاء الدولة وأمن الأمة المصرية، أي الجيش، من ناحية أخرى، هو الذي دفع الشعب (وإحساس مشابه للشعوب العربية) بإطلاق الإشارة لهذه المؤسسة وهي لا تزال قادرة، على التحرك لقطع الحبل السري بين إمكانيات مصر الهائلة والجماعات الإرهابية وحماية البوابة الشرقية لمصر (سيناء) قبل استفحال الإرهاب فيها وإيقاع الجيش المصري بين فكي الكماشة بسيطرة الإرهابيين على ليبيا من الغرب. أما مخطط الإخوان الأكثر خطورة، فكان استهداف المسيحيين المصريين لافتعال حرب أهلية وتمزيق مصر، مثلما يحدث في بلدان أخرى اليوم.

ولذا كانت حالة اليوفوريا، التي اجتاحت مصر والشعوب العربية بتنصيب رئيس جديد ولد من رحم الجيش المصري، شعورا من اللاوعي بمكافأة الشعب نفسه على استيقاظه في الصيف الماضي لإنقاذ مصر من مصير ليبيا وسوريا والعراق، ومكافأة الشعوب العربية نفسها على مواقف عكسها زعماؤها خاصة في قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لمحور أصدقاء مصر في السعودية والإمارات والكويت والبحرين. وقد تمثل انتصار المرحلة الأولى في انتخاب الرئيس السيسي، فبقاء مصر شامخة هو انتصار للعرب جميعا، الذين يدركون أن الحرب على الإرهاب (الذي لا يستهدف مصر وحدها) طويلة وشاقة وستستمر لجيل كامل وربما جيلين.