«داعش» وحرب المقدسات

TT

ما ترتكبه «داعش» في العراق، وما تهدد بتنفيذه، قد يجر المنطقة بأكملها، وفي أي لحظة، إلى كارثة لا تحمد عقباها. تجاهل أن سكان هذه البقعة الجغرافية، هم فسيفساء، مركبة من هويات شديدة التنوع والتعقيد، هو الجهل حين يبلغ غاياته السوريالية. أن تهدد «داعش» بالزحف إلى بغداد، لاستعادة مركز الخلافة، وأن تحاول، تكرارا، دخول سامراء حيث مرقد الإمامين العسكريين، وتعلن نيتها اجتياح كربلاء والنجف، وما لهما من قدسية، بالنسبة للطائفة الشيعية، وتحديدا في هذا الظرف الذي يغلي فيه مرجل الطائفية، يعني أن ثمة مخططات شيطانية، مبيتة، لإدخال الجميع جحيما قد لا تنطفئ ناره. ماذا لو اقتحمت «داعش» بالفعل هذه المدن، واعتدت على الأماكن الشيعية المقدسة، وصورت كعادتها أشرطتها التي روعت العباد، وقررت أن تشعلها فتنة لا تبقي ولا تذر؟! من يمكنه أن يضبط ردود الفعل الشعبية الغاضبة من اليمن وصولا إلى لبنان وسوريا، ودون أن ننسى إيران وتركيا التي يعيش فيها نحو 20 مليونا من العلويين، وأربعة ملايين من الشيعة. فتح الدائرة الجحيمية للقتل الطائفي والثأر المضاد على مدى المساحة العربية، من البوابة العراقية، أمر بات يتوجب التحسب له، فليس أخطر، في حياة الأمم، من اللعب على «الشعور الديني»، هذا المصطلح الذي أشبعه الألمان درسا وتحليلا، وشرحه الفرنسيون والإنجليز من خلال أدبهم وتاريخ كبار شخصياتهم الدينية، كما السياسية، فيما لم نعترف بوجود المصطلح أصلا، رغم أنه يعشش في صميم يومياتنا.

كل أشكال العنف التي شهدها العراق كانت بكفة، وتفجيرات الأماكن الدينية وما جرته من حقد وويلات، في كفة لوحدها. تكرار هذا المشهد بالأساليب الداعشية «المبتكرة»، سيكون له وقعه الاستفزازي على كثيرين. محقة الحكومة اللبنانية حين تقرر عقد اجتماع سريع بحضور المسؤولين الأمنيين لمواكبة ما يحدث في المنطقة. فلبنان قد يكون في عين العاصفة، في حال مارست «داعش» حفلات جنونها. وأن تُستنفر دول أخرى مجاورة للعراق للبحث في انعكاسات التهاوي المفاجئ لمحافظات عراقية بأكملها، في أيدي متطرفين، هو أقل ما يمكن فعله، في انتظار نتائج يخشى أن تكون كابوسية.فما كشفته مفاجآت الأيام الماضية، من سقوط مدن عراقية دون قتال، على رأسها الموصل، وهروب عناصر الجيش وضباطه، يرينا أن السلطة في بغداد كرتونية، والمليارات التي ترصد للجيش سنويا لم تثمر صمودا، ولو هزيلا. الاختلاسات وصلت إلى حد فضائحي، والجيش العراقي، الذي صنف ذات يوم بين الأقوى في العالم لتبرير الهجوم على بغداد، ثم حله الأميركيون غباء أو استغباء، لا يزال هلاميا، رغم كل الادعاءات الأميركية ببنائه وتدريبه، وهو ما سيضطر السلطات لتشكيل جيش رديف، وما أجبر الناس على التطوع لتشكيل مجموعات شعبية للدفاع عن أنفسهم.

ومع أن مداميك الدولة العراقية تبدو أوهى مما كان يتوقع، يعتقد محللون أن قدرات «داعش»، لن تمكنها من اجتياح بغداد، رغم أنها باتت على مبعدة عشرات الكيلومترات منها. ولا يزال من المستبعد، بحسب البعض، أن يستتب الأمر لهذا التنظيم ويقيم دولته، في الوقت الحالي، من الموصل إلى حلب، كما بشرت العديد من الصحف الغربية، وعدّت أن «الدولة الإسلامية» قاب قوسين أو أدنى. صحيح أن تنظيم «داعش» ليس وحيدا في المناطق التي تهاوت أمامه كقطع البسكويت، وأن النقمة السنية ضد حكم نوري المالكي وفساده، ترفد التنظيم بالمسلحين المتطرفين والناقمين المعتدلين، وبعض ضباط صدام حسين السابقين، وعسكريين عراقيين حاليين، لكن المشهد في العراق لن يكون، على المدى القصير، ولسوء حظ العراقيين، أكثر من استنساخ، لما رأيناه في الشمال السوري؛ إذ سرعان ما تنقسم الحركات المتطرفة وتتشرذم، وتعم الفوضى والاشتباكات البينية، فيما بينها.

جل ما تستطيع «داعش» إنجازه، حاليا، وهي تتربع على مساحة شاسعة، ولو استولت على طائرات ومعدات حربية ثقيلة، وسيطرت على أنابيب نفط رئيسة، هو أن تزيد من شرذمة العراق وتفتيته، وتتسبب في مفاقمة عدد المجازر والمآسي ورفع نسبة المشردين، دون أن تتمكن من تحقيق دولتها المأمولة؛ فلا المزاج الشعبي في سوريا والعراق، يحتمل الاجتهادات الداعشية الغرائبية، التي وصلت إلى حد التندر والتهكم من السكان أنفسهم، ولا الجوار الجغرافي الذي يزنرها يمكن أن يسمح باستتباب سلطة عسكرية - دينية ذات نفس قاعدي، فالتنظيم، بامتداده الحالي، يحتل موقعا استراتيجيا شديد الأهمية والحساسية، وبمقدوره، بقليل من التوسع، أن يقطع الوصال بين النظامين الحليفين في بغداد ودمشق، لكنه في الوقت نفسه محاصر ببحر شيعي جنوبا وبالأكراد شرقا وشمالا، والنظام السوري غربا، وإذا ما قررت تركيا أن تنفذ وعودها مع أميركا في المساعدة على محاصرة «داعش» ومحاربة الإرهاب، يكون التنظيم قد أحكم الحصار عليه من الشمال السوري، خاصة أنه لا يتمتع بأي منفذ بحري. وبالتالي فمكامن قوة «داعش» التي مكنتها مما حصلت عليه، في ظرف لأيام معدودات، هي نفسها مواضع الضعف التي يمكن لأن تبقيها في كر وفر متواصلين، مع جيران قد لا يجمعهم، أحيانا، غير خشيتهم من سطوتها.

التشظي يتواصل. العراق دخل دوامة دموية جديدة. «داعش» تسكب الزيت على نار هائجة أصلا، وتدخل العراق، في تحد لم يسبق أن عاش مثيلا له، رغم كل التجارب الدموية التي خاضها. بعد إقليم كردستان، هل بدأ يتشكل إقليم «داعش» السني، كما إقليم المالكي الشيعي؟ هل نحن أمام بداية ولادة الدويلات الطائفية التي ستعم المنطقة تدريجيا، وتمهد للاعتراف التلقائي بدولة يهودية؟ أم أن الطموح الداعشي بالتمدد من فلسطين إلى الكويت سيقصم ظهر التنظيم؟