سنة العراق والامتحان الكبير

TT

نعم، أسرف نوري المالكي، رئيس الحكومة العراقية، في خصومته مع سنة العراق.

ازدراهم وأقصاهم، لاحقهم وهجرهم من ديارهم، مارس عليهم ديكتاتورية مقننة، زج بأولادهم في السجون وفرض عليهم أحكامه الخاصة بلا محاكمات حقيقية. منذ اعتلى سدة الحكم لم يجن العراق سوى المزيد من المآسي والآلام، حتى عاد الناس يترحمون على ديكتاتورية صدام حسين. فالعراق ليس مجرد دولة، بل قضية؛ قضية الحاكمية العادلة التي لم تجد لها مكانا.

الثورة على الظلم مشروعة، لكن الواضح أن سنة العراق لديهم مشكلة كبيرة، وهي أنهم صدقوا كذبة أخذهم لفرصتهم في المشاركة السياسية وحقوق المواطنة حينما كان صدام حسين يحكم العراق كونه سنيا مثلهم. هذه كذبة اخترعتها طهران ورددها حلفاؤها في العراق وسوريا، ويبدو أن سنة العراق صدقوها. أقول ذلك لأنهم منذ سقوط صدام حسين وهم يظهرون وكأنهم ضربوا على ظهورهم، ارتبط غضبهم من الاحتلال الأميركي للعراق بسقوط صدام حسين لأنهم رفضوا كل تداعيات هذا السقوط، قرروا أن يتخذوا زاوية قصية بعيدين كل البعد عن العمل السياسي، وذهبوا بعيدا في غضبتهم حين تعاطف بعضهم مع الميليشيات السنية المسلحة الموصومة بالإرهاب. وللأسف، فإيران التي ترى أن العراق جزء لا يتجزأ منها، اختطفت الطير من السماء، وأرست قواعدها العسكرية والسياسية تحت مسمع ومرأى من شخصيات عراقية سنية كان الأجدر بها أن لا تترك مواقعها لحلفاء إيران ثم تنتحب على سوء أوضاعها.

هي مرة وحيدة، سلك السنة مسلكا حكيما، حين تبرأوا من تنظيم القاعدة الذي يدعي أنه سني المذهب في عام 2006 عندما أقنع الراحل عبد الستار أبو ريشة رحمه الله عشائر الأنبار بتشكيل مجلس إنقاذ لطرد التنظيم الإرهابي الذي بات ينازعهم سلطتهم ويفرض آيديولوجيته المتطرفة عليهم، فكان بداية ما عرف بالصحوات. رفعوا السلاح بدعم لوجيستي من جورج بوش الابن في وجه «القاعدة»، فرفع العالم قبعته تحية لهم على بسالتهم، حينها قال العالم وخاصة الغرب: حقا، السنة مثل أصابع اليد وليسوا على هيئة واحدة، فمنهم الطيب ومنهم الخبيث.

حين قدمت في يناير (كانون الثاني) الماضي أرتال من مقاتلي «داعش» من سوريا باتجاه الفلوجة واستولت عليها، ظهر أحمد أبو ريشة رئيس مؤتمر صحوة العراق ليعلن للعشائر: «نعم، إنهم عادوا، ظهروا من جديد». ومنذ ذلك الوقت والتنظيم المتشدد يحاول فتح جبهات باتجاه بغداد، لكن هذا الحدث لم يحظ باهتمام دولي كما حصل في الموصل لأن الانطباع العام لا يستغرب وجود المتشددين في مدينة كانت معقلا لتنظيم القاعدة بعد الاحتلال الأميركي.

ما هي مقومات «داعش» للاستيلاء على مدينة كبيرة كالموصل، وثاني أكثر المدن العراقية كثافة بالسكان خلال ساعات قليلة؟ «داعش» أخذت صيت معركة الموصل لكنها فعليا لا تستطيع أن تحقق هذه المكاسب الكبيرة بمفردها، فهي أحد أطراف المعركة في سوريا، لكنها لم تستطع الحسم لصالحها، مثل غيرها من الأطراف التي باتت متكافئة القوى.

في الموصل انكشفت حقيقتان اثنتان، الأولى أن الجيش العراقي لديه حساباته الخاصة ومصالحه التي فرضت عليه الانسحاب وترك الأرض للمتشددين بغية تسهيل الاستيلاء عليها، وهو تكتيك يقوم به بشار الأسد لتمكين الجماعات المسلحة من تعزيز مواقعها في سوريا لتكون ورقة ضغط في ألاعيبه السياسية، وهذا التكتيك ورثه بدوره عن والده حافظ الأسد الذي انسحب من الجولان تاركا إياها لقمة سائغة للإسرائيليين في نكسة عام 67 لتصبح لديه قضية يساوم عليها. المالكي الذي يحكم بالعقلية الطائفية أرخى قبضته الأمنية فتيسر لـ«داعش» سرقة البنوك وتهريب آلاف السجناء الذين انضموا لصفوفها، ثم ترك لهم المناطق السنية تسقط الواحدة تلو الأخرى.

أما الحقيقة الثانية فهي أن «المجلس العسكري لثوار العشائر» هو التشكيل العسكري الأضخم الذي يضم المقاتلين السنة الموجوعين من سياسات المالكي، وهم الثوار الحقيقيون في معركة الموصل. وهؤلاء الثوار يختلفون مع قوات الصحوات في كونهم لا يقبلون التعاون مع الحكومة المركزية التي يرونها ظالمة. هم أصحاب حق في كل مطالبهم وتحركاتهم، إنما قبولهم الارتباط بـ«داعش» هو إفشال لكل مساعيهم الحقة. «داعش» تحارب أكثر من عدو؛ الجيش العراقي، والبيشمركة الكردية، وقوات الصحوات، والميليشيات الشيعية، والحرس الثوري الإيراني، وسيزداد كل أولئك صلافة ضدهم بمرور الوقت.

ما نسمعه اليوم من بعض شيوخ العشائر من وقوف «داعش» مع مطالبهم الثورية هو ضرب من الجنون وخطأ آخر تقع فيه القيادات السنية، ومهما قيل عن حقوقهم التي سلبها المالكي فلن يكون لها قبول إن ارتبطت بدعم «داعش». هم ليسوا بحاجة للدعاية الداعشية ليظهروا بمظهر القوة والقدرة على لفت نظر العالم إليهم. لقد حاربت العشائر السنية «داعش» حينما كانت «داع» أي الدولة الإسلامية في العراق، وعليها أن تكمل منهجها في وقت يراقبها فيه العالم ويعيد تقييمها.

إيران ستدخل على الخط نافلة، لأنها في الأساس متمكنة من العراق، لكنها لن تقبل بسقوط بغداد في أيدي المتشددين السنة وسيكون من دواعي سرورها التنكيل بسنة العراق من المدنيين الأبرياء، والأميركيون يدفعون الآن ثمن أخطائهم الرهيبة في الملف العراقي وأهمها ثقتهم في نوري المالكي ومنحه مساعدات لوجيستية كبيرة رغم عدم التزامه لهم بتوسيع المشاركة السياسية لكل أبناء العراق.

في هذه القراءة الأولية لما يحصل تثور مجموعة من الأسئلة:

هل هناك قيادة سنية وطنية تستطيع أن تضم تحت جناحها ثوار العشائر وتكون لهم المرشد والناصح القوي الأمين؟

هل تستطيع إيران إدارة معركتين؛ في سوريا والعراق؟

هل السنياريوهات المحتملة هي إما حرب أهلية أو تقسيم العراق الإثني والمذهبي؟

إنه يوم امتحان كبير لسنة العراق، ليظهروا مدى كونهم أهلا للثقة، وأنهم مدركون، كما شهدوا في تاريخ العراق المعاصر، أن لا طائفة أو عرق يستطيع أن يحكم العراق متفردا، وأن الحق المشروع يتوه في السبل المحرمة.

[email protected]