جاذبية الشأن السعودي!

TT

في منتصف فبراير (شباط) عام 1952، كان المستكشف البلجيكي فيليب ليبنز يلقي نظرته الأخيرة على أرجاء الرياض. قبل أن يركب الطائرة عائدا إلى دياره، تمتم بكلمات، وذكريات رحلته تمر أمام عينيه: «إن مستقبل هذه العاصمة في الميزان.. مدينة الصحراء بقصتها المشوقة الغريبة مدعوة لإكمال مسيرة أكبر ملك عربي في الأزمنة المعاصرة». استوى على مقعده في الطائرة، واستمر يحدث نفسه: «لقد كان سان إكسوبري محقا حين قال (لقد تغذينا بسحر الرمال، وقدم لنا سعف النخيل أغلى ما عنده).. نعم نحن عشنا هذه الساعة».. («رحلة استكشافية وسط الجزيرة العربية»، فيليب ليبنز، دارة الملك عبد العزيز).

منذ أن توحدت المملكة على يد المؤسس، والدراسات والمؤلفات الغربية، والعربية أيضا، لا تكل ولا تمل، ولا تتوقف.. تناقش وتحلل وتتأمل في الحالة السعودية وشأنها، ثقافة، واجتماعا، وتقاليد، وقيما، ونظاما، وتاريخا، وتضاريس أيضا، على اختلاف مشارب ومآرب الكتاب والباحثين، وعلى تعدد أدواتهم منذ الكتابة التقليدية، عبر السير أو المذكرات، أو البحث العلمي الحديث، أو حتى التحقيقات والقصص الصحافية، فالبرامج والحوارات التلفزيونية، والأفلام السينمائية والوثائقية، ورغم كل ذلك لا يزال هذا الموضوع غضا طريا شهيا للتناول والطرح من جديد في كل مرحلة.

التساؤل المنطقي هنا: ما الذي يجعل «الشأن السعودي» مادة جذابة مغرية للبحث والاستكشاف؟ لماذا هذا التدفق الهائل والكبير في المؤلفات والأطروحات التي تتناوله، سواء كانت أجنبية زائرة أو أصيلة مقيمة؟

ربما من المجازفة العلمية تقديم أسباب مباشرة أو شاملة تفسر هذه الحالة النشطة من التعاطي مع الشأن السعودي، لكن هذه الأرض التي جمعت في ذاتها عوامل وظروفا متداخلة، متراكمة ومعقدة، شكلت نموذجا مختلفا، وحالة يندر وجود مثيل لها، كما أنها كوّنت صورة تبدو من الخارج ذات «غموض».. غموض يحرض على الفضول واكتشاف الصورة، تلك الصورة تبدو من بعيد مليئة بالقصص والأحاديث وربما الأساطير التي تزيدها إثارة.

في هذه الأرض التي تقع وسط «الرمال الساحرة»، كما يحلو لفيليب أن يصفها، انطلقت دعوة إصلاحية دينية وحدت بين الإمارات المتفرقة، وفاضت الأرض بخيراتها، فانعكست نموا اقتصاديا، وازدهارا، وتغير شكل الصحراء، لكنها بثقافتها وقيمها التقليدية وبمحافظتها العائلية/ القبلية، والدينية، ما زالت فاعلة حيّة وسط مجتمع في ذاته وحياته اليومية لم يعد تقليديا، بل أصبح يتعاطى، ويندمج بتفاعل شغوف ولافت مع أدوات الحداثة الغربية. كانت هذه المفارقة النادرة أحد أهم عوامل جذب الباحثين الغربيين وإغرائهم لاكتشاف حالة المجتمع السعودي.

في بداية الأمر كان السعوديون يتعرفون على أنفسهم، ويقرأون ذاتهم من خلال المؤلفات الغربية من رحلات المستشرقين القديمة، أو الباحثين الأكاديميين والصحافيين الزائرين، الذين يعودون إلى ديارهم فيكتبون مشاهداتهم عن مجتمع محافظ ومتحفظ، لكنه يجد أريحية من «نوع ما» في الحديث بحرية إلى المستكشف الغربي القادم من أوروبا.

ولأنها أخذت زمام السبق والتأليف والكتابة في أرض فتية بكر، فقد كان للمؤلفات والمقالات الغربية التي تتناول الشأن السعودي «سطوة ثقافية» ما زالت آثارها باقية، فحتى الخطاب الصحوي الذي كان يتبنى موقفا معاديا للغرب، ويسعى لتقديم «شرح» مختلف لحالة المجتمع السعودي، في أوج ازدهاره منتصف الثمانينات والتسعينات، كان يستقي مصادره ومعلوماته عن حالة أبنائه من الصحف البريطانية والأميركية، وتُقدم تلك الاقتباسات في الخطب والمحاضرات في معرض «اليقين» وأعلى درجات «الثبوت».

لكن في نهاية حقبة التسعينات، وبالأخص مع دخول الإنترنت إلى السعودية، وتوسع الفضائيات، لم يعد المتابع مضطرا إلى وسيط يخبره بما يجري. عبر العالم الافتراضي بدأ السعوديون يتحدثون إلى أنفسهم، وعن أنفسهم، وضجت «المنتديات الإلكترونية» بسجالاتهم ومقالاتهم ونقاشاتهم، التي ذيلت بتلك «الأسماء المستعارة» التي فتحت الكثير من القضايا المحمومة التي لا تزال مشتعلة.

في تلك الأثناء تقع لحظة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، ويصبح السعوديون في بؤرة المشهد العالمي. الباحثون الغربيون يعودون لاكتشاف المجتمع السعودي، ويطرحون حوله الأسئلة من جديد. لاقت المؤلفات والمقالات الغربية التي تتناول الشأن السعودي ما بعد الحادي عشر من سبتمبر رواجا وانتشارا وتلقفا متلهفا، في أرض عطشى مليئة بأسئلة تبحث عن الإجابة.

وانفتحت حالة من النقد الذاتي والمراجعة الداخلية عن مسببات ما حدث وجذوره، وانتقلت عدوى «المنتديات الإلكترونية» إلى الصحف السعودية التي انفتح «بعضها» بجرأة يحلل شأنه وواقع مجتمعه بلغة جديدة غير معهودة.

هذه التداعيات، وتراكم المؤلفات الغربية جيدها، ورديئها، والانفتاح على الفضائيات والإنترنت، كانت كفيلة بأن تحفز السعوديين كي يكتبوا عن أنفسهم بشكل منظم، بدلا من السجالات العشوائية المتناثرة. وبدأت المحاولات حثيثة، في ظل سوق متلهفة، وحراك ثقافي متقد، يثير الكثير من الجدل والأسئلة.

لكن ما الذي حدث مؤخرا؟

كانت قفزة غير متزنة، من العطش إلى الارتواء المخل والتخمة الضارة. أصبح الحديث عن الحالة السعودية مفتوحا على مصراعيه، فالشح الذي كان يطال تلك المساحة اتخم بمؤلفات وكتب، كأنها تريد أن تعوض نفسها من ذلك الحرمان، وتملأ الفراغ ولو بالصدى، وتسجل لنفسها قصب السبق، بعبارات ومسميات رنانة لا تحوي في مضمونها شيئا.

في معارض الكتاب لا تخطئ عين المراقب والزائر تلك الموجة المتصاعدة مؤخرا كل سنة في تناول الشأن السعودي، (يكفيك أن تضع اسم «السعودية» على عنوان الكتاب حتى تضمن منه عنوانا رنانا مدرا) تحول الأمر من حالة علمية ثقافية، إلى حالة تجارية، تتوسل القارئ السعودي وجيبه، وتتسلق على همومه وقضاياه، حتى لو وصل الحال إلى جمع «تغريدات» وتسميتها بـ«كتاب» يُحتفى به أمام الملأ.

إن صعوبة الحالة السعودية وتعقدها، وشح مصادرها، واعتماد مجالات منها على المتناقل الشفوي، والتحليل الاجتماعي عن كثب ومعايشته، سوف يكشف ضعف وعجز كثير من المتصدرين لتحليل هذا الشأن أو «الانتفاع» من ورائه على حساب أسس البحث العلمي، واحترام القيمة المعرفية. لكن الدراسات العلمية، والأكاديمية الرصينة، ممن خبروا الواقع من مصادره الأصيلة المكتوبة والمسموعة/ الشفاهية، سوف تبقى، وتحجز لنفسها مكانا لا ينسى، حتى وإن انجرفت الموجة الأعلى صوتا نحو منتجات «الإعلام الجديد» التي تتبخر سريعا حين تتعرض لأشعة الشمس والزمن.