قراءة في الدبلوماسية العامة والسياسة الدولية

TT

تُعد الدبلوماسية العامة التي تشير إلى أنشطة دبلوماسية علنية في مجالات الإعلام والتعليم والثقافة، عنصرا حيويا في التخطيط والتنفيذ الناجح للسياسات الدولية. ورغم ارتباط مصطلح الدبلوماسية العامة بمعناه المعاصر بعميد كلية فليتشر للحقوق والدبلوماسية بجامعة «تافتس» الأميركية السفير السابق إدموند غاليون، فإنه يمكن إرجاع ممارسة ومفهوم الدبلوماسية العامة إلى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر على التوالي.

شهدت مرحلة حرب الاستقلال الأميركية أولى محاولات الدبلوماسيين والقادة الأجانب التأثير في النقاشات المتعلقة بالسياسة الخارجية في البلد المضيف. ويعد المبعوث الأميركي في فرنسا بنجامين فرانكلين أول مبعوث دبلوماسي استخدم ما عرف فيما بعد بالدبلوماسية العامة للتأثير في السياسة الخارجية للبلد المضيف. فقد عمل، بنجاح منقطع النظير، على خلق بيئة تمكين للقضية الأميركية في فرنسا. وبعد ذلك اتسع نطاق ممارسة الدبلوماسية العامة في مطلع ثمانينات القرن التاسع عشر ليشمل، للمرة الأولى، توظيف البعد الثقافي والتعليمي للدبلوماسية العامة، وذلك حينما أنشأت فرنسا في عام 1883، منظمة «الأليانس فرانسيز» لتحقيق ما عجزت عن تحقيقه بالقوة العسكرية بعد هزيمتها في معركة «سيدن».

ولا شك أن مصطلح الدبلوماسية العامة مصطلح قديم بمعنى جديد. فقد استخدم هذا المصطلح للمرة الأولى بمعنى: «التحضر» في جريدة «التايمز» البريطانية في عام 1856. وظهر بعد ذلك في الولايات المتحدة في عام 1871، بمعنى: «الدبلوماسية المفتوحة» التي تعني علانية العمل الدبلوماسي حينما دعا عضو مجلس النواب الأميركي سام كوكس إلى تبني دبلوماسية عامة – مفتوحة. وبعد قرابة الـ47 عاما أعلن الرئيس وودرو ويلسون في خطابه المشهور عن حالة الاتحاد في 8 يناير (كانون الثاني) 1918 مبادئه الأربعة عشر التي شملت الدعوة لانتهاج الدبلوماسية العامة - المفتوحة.

وقد استمرت المقاربة الويلسونية للمصطلح حتى ستينات القرن العشرين التي شهدت انتقال المصطلح من ميدان «الدبلوماسية المفتوحة» إلى حقل «الاتصال السياسي الدولي»، الذي يقصد به اتصال هادف يتعلق بالسياسة الدولية. ففي عام 1965، صاغ السفير إدموند غاليون مصطلح الدبلوماسية العامة بمعناه المعاصر الذي يعني، في بعده الإعلامي، التأثير في تدفق المعلومات والأفكار عن بلد ما في دولة أخرى بما يخدم سياستها الخارجية.

وقد أدركت الدول الأهمية المتزايدة للتداعيات السياسية المحتملة للتغطية الإخبارية للشؤون الدولية في السنوات الأخيرة. ويعود ذلك إلى ثورة الاتصالات والمعلومات، وزيادة أهمية الرأي العام في الدول الأخرى، وظهور أنواع جديدة من الأعداء، وكذلك زيادة حاجة الدول للعمل الجماعي. فالسياسات الدولية قد تفشل إذا أهملت مهمة التنافس على «أجندة» الإعلام وعلى «المعنى» الذي يعطيه الإعلام لتلك الأجندة وبالتالي على «قلوب وعقول» الرأي العام في الدول الأخرى. وهذا ما أشار إليه المفكر السياسي الأميركي جوزيف ناي، حينما قال إذا كانت الدول صاحبة الجيوش الأقوى هي التي تنتصر في الماضي، فإن الدول صاحبة «القصة الإعلامية» الأفضل هي التي قد تنتصر في عصر المعلومات.

لذا لم يكن مستغربا أن ينشر الرئيس الإيراني حسن روحاني، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سبتمبر (أيلول) 2013 مقالتي رأي في صحيفة «واشنطن بوست»، و«نيويورك تايمز» على التوالي، بهدف التأثير في النقاشات المتعلقة بالسياسة الخارجية الأميركية تجاه القضايا التي تهم بلديهما كأزمة الملف النووي الإيراني والأزمة السورية. وعلى نحو مماثل استعان بشار الأسد أثناء الأزمة السورية بشركة «براون لويد جيمس» للمشاركة في إعداد ونشر مقابلة مصورة له ولأسرته مع مجله «فوغ Vogue»، بينما كانت قواته تقتل المدنيين. كما قدم خبراء إيرانيون للنظام السوري، وفقا للوثائق التي انفردت صحيفة «الشرق الأوسط» بنشرها بتاريخ 4-4-2014. خطة عمل لتشويه صورة الثورة السورية في الخارج.

كما لم يكن مستغربا أن تنظم الصين حدثا كبيرا mega event كل سنتين وأحداثا أقل أهمية كل سنة لزيادة حضورها الإعلامي وتحسين صورتها في الخارج. فعلى سبيل المثال نظمت الألعاب الأولمبية الصيفية في عام 2008، ومعرض إكسبو في عام 2010، ومسابقة ملكة جمال العالم في عام 2012، وستستضيف أولمبياد الشباب في عام 2014. كما تستضيف سنويا سباق الفورمولا-1. وتخصص مليارات الدولارات سنويا للبث التلفزيوني الموجه للخارج باللغات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والروسية والعربية.

بالطبع يعتمد نجاح جهود الدبلوماسية العامة أو فشلها على متغيرات عدة، منها استراتيجيات، ووسائل تنفيذ، ومحتوى، وجمهور، وتقييم جهود الدبلوماسية العامة، والسياق الذي تعمل فيه.

أخلص من ذلك، إلى القول إن الدبلوماسية العامة أداة استراتيجية من أدوات تخطيط وتنفيذ السياسات الدولية. فالصراعات الدولية لم تعد صراعا على القوة فقط، بل أضحت صراعا على «المعنى» الذي من دونه تصبح القوة عديمة القيمة. غير أن نجاح جهود الدبلوماسية العامة يعتمد على طبيعتها، وعلى السياق الذي تتحرك فيه.

* أكاديمي سعودي متخصص في الإعلام السياسي بمعهد الدراسات الدبلوماسية في الرياض