الهندسة الديمقراطية!

TT

لمن قُدِّر له العيش في الولايات المتحدة هذه الأيام، ومن ثم صار عليه أن يتابع الصحف ومنتجات مراكز الأبحاث والدوريات المختلفة، سوف يجد حالة من الغضب المختلط بالإحباط، لأن الديمقراطية لا تسير على ما يرام في عالمنا العربي. المناسبة التي أشعلت الحديث كانت انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي للرئاسة المصرية، ومن ثم جاء القول إن الزمان بما فيه من فصول قد التفت دورته لكي تعود الأمور إلى ما كانت عليه، وربما كان أسوأ.

مارك لينش، الباحث في الأمور الإسلامية في جامعة جورج واشنطن، لطم الخدود لأن «الربيع العربي» لم يبق منه شيء إلا أطلال وخرائب، فالديمقراطية الموعودة لم تحدث، وما انتهت إليه السياسة لم يزد على عودة الدولة القبيحة إلى مسارها الذي كان. مارينا أوتاوي، الباحثة في مركز وودرو ويلسون، أعلنت انغلاق الفضاء السياسي في مصر، ليس فقط مع انتخاب السيسي، ولكن مع الانتخابات القادمة لمجلس النواب المصري الذي سيستبعد الأحزاب، ويبقي أصحاب المصالح من أهل الريف والبادية. ميشيل دن في مؤسسة كارنيغي، لم تجد شيئا في مصر يستحق الإشادة، فقد انتهت الأمور إلى أسوأ ما هو ممكن، ولذا فإن الولايات المتحدة لم يعد أمامها إلا قطع المعونة والمساعدة عن الدولة المصرية، ومن رقة قلبها طلبت أن يتم توجيه المساعدات للشعب المصري. بالطبع، لم يترك ستيفن كوك الزفة كلها، فكتب آسفا أن السيسي كان من الممكن أن يكون وزيرا جيدا للدفاع، أما أن يقود دولة منهارة اقتصاديا والعنف والإرهاب يسيران فيها في اتجاه متصاعد، فهو لا يناسب مقتضى الحال.

وهكذا تتعدد الكتابات ويتغير الكتاب، ولكن النتيجة دائما واحدة، وهي أن ثمة خطأ ما يجري في بلادنا، وأن الولايات المتحدة عليها أن تقوم بمجموعة من الواجبات والاستراتيجيات، لكي تضع الأمور في مكانها الصحيح. والصورة التي تظهر أنه كانت هناك فرصة للديمقراطية، ولكنها أجهضت بفعل الثورة المضادة، ولأن الولايات المتحدة لن تقوم بواجباتها التي كان عليها القيام بها، إما بأن تقتصر علاقاتها مع مصر على مقاومة الإرهاب، أو على العلاقات مع جماعات ليبرالية وديمقراطية تشكِّل «الشعب المصري»، ولكنها لسبب ما لا تحصل على مقعد في برلمان، ولا تفوز في انتخابات عامة، ولا تجد بين عامة الشعب من ينضم إليها.

المدهش في الموضوع أن كل ذلك يكتب، بينما تنسحب الولايات المتحدة من أفغانستان دون نجاح يذكر، اللهم إلا إذا اعتبرنا عودة طالبان هي الرجوع الحقيقي إلى الديمقراطية. الكارثة الأخرى تجري الآن في العراق، حيث تقوم «داعش» بتدمير الدولة التي جرت عملية تدميرها عدة مرات. وببساطة، فشلت عمليات الهندسة الديمقراطية، ولم يبق منها إلا الرماد وقبض الريح. لماذا فشلت التجربة مرة ومرات ولم تلفت نظر أحد لكي يضعها موضع الفحص والتمحيص؟ لأن هناك عناصر وعوامل كلها جرى تجاهلها، والأخطر تمت عملية التواء لأصولها. والغريب بعد ذلك أن يتم تطبيقها على مصر مرة أخرى من خلال النظر بعيدا عن كل التغييرات التي جرت في مصر خلال السنوات الثلاث الماضية، والتي جعلت المصريين يدخلون السياسة من خلال قناعاتهم المرتبطة بالنجاح والفشل، والقدرة على الإنجاز والتأثير من ناحية، وترجمة السياسة إلى صفحات على «الفيسبوك» أو سطور على «تويتر» من ناحية أخرى. لم يلاحظ أحد نهاية الانبهار المصري بجماعات من الشباب يظن في واشنطن أنها «الشعب المصري». ميشيل دن تتصور الشعب المصري وكأنه فقط جماعة 6 أبريل، أو عدد من الجماعات الحقوقية التي تصدر بيانات منتظمة، أما ملايين الشباب المصري في الحقول والمصانع والريف والحضر والساحل والبادية، فإنه لا يساوي الكثير. مارينا أوتاوي لم تبذل جهدا لقراءة قانون الانتخابات المصري فتصورت أنه يستبعد الأحزاب، لأنه لا يشمل في غالبيته نظام الانتخاب بالقائمة، رغم أن نظام الدوائر الفردية لا يمنع حزبا من ترشيح أفراده كما يشاء، وفي التاريخ تجارب لحزب الوفد يكتسح فيها الانتخابات عن طريق ممثليه لدوائر فردية. المدهش أن النظام الأميركي قام على الدوائر الفردية، ولم يطالب أحد ممن يلومون المصريين بالمطالبة بنظام القائمة في الولايات الأميركية.

من المؤكد أن هناك في مصر الذي يستحق النقد والقدح، ولكن ما هو غائب في واشنطن أن هناك محاولات للمصريين بدأت بالإطاحة بنظام فاشي يتستر بالدين، قبل أن يتمكن من مصر. لم يفعل المصريون ما فعله الألمان أو الإيرانيون أو الصينيون أو الروس، فلم يمر عام إلا وخرجت الجماعة النازية من الحكم، وإلا لاستمرت لعشرات الأعوام وخاضت حروبا داخلية وخارجية، وفعلت في البلاد ما حدث في السودان وإيران. ورغم كل ما حدث منذ 30 يونيو (حزيران) 2013 مع الثورة الثانية للشعب المصري حتى الآن، فإنه على عكس ما هو سائد في واشنطن، فإنه ليس صحيحا كما يقول ستيف كوك، إن العنف والإرهاب زادا في البلاد. الأمر لا يحتاج إلى أكثر من المتابعة والمراقبة والرصد، فإذا المنحنى في هذا وذاك يتراجع شهرا بعد آخر ويوما بعد يوم. كم من المقالات الذائعة في العاصمة الأميركية تتحدث عن الاقتصاد المصري «المنهار»، ويقال ذلك بينما انخفض العجز في الموازنة العامة، وعادت «البورصة» المصرية إلى مستوياتها في صيف عام 2008، أي قبل الأزمة المالية العالمية ونشوب عهد الثورات، وبلغ معدل النمو 2.7 في المائة، بينما كان 1.9 في المائة في عهد الرئيس مرسي، وارتفعت الاحتياطات المصرية بعد أن كانت قد وصلت إلى الحضيض. لم يتغير الموقف هكذا بفعل المساعدات العربية المحمودة وحدها، بل جاء بفضل السياسة التوسعية التي اتبعتها الحكومة المصرية، وأدت إلى تجاهل نصائح صندوق النقد الدولي، وبدلا منها إنفاق حزمتين بلغتا قرابة 60 مليار جنيه مصري نفخت الروح في البنية الأساسية مرة أخرى. هناك مصاعب وأزمات لا شك فيها، وبعد ثلاث سنوات من الثورات، فإن الحالة الاقتصادية من الطبيعي أن تكون على غير ما يرام، ولكن القول إن الاقتصاد منهار يعكس أقوالا تصلح للمقاهي المصرية، ولكنها لا تصلح للتعبير عن الواقع المصري.

الفجوة بين ما هو مكتوب في واشنطن، وما هو جارٍ في مصر، واسعة للغاية، وقد تؤدي محاولة سد هذه الفجوة إلى اعتقاد أن الأحوال «وردية» في القاهرة. والحقيقة أنها ليست كذلك، ولكن هناك فرصة وبداية لطريق معقد ومركب، لكي تحدث الديمقراطية والحداثة مع المحافظة على الدولة قبل وبعد كل شيء، وهي طريقة مختلفة عن عملية الهندسة الديمقراطية التي يشيع الحديث عنها في واشنطن، والتي تكون فيها الديمقراطية أداة لانهيار الدولة.