عراق الحابل بالنابل

TT

ما إن تفتح أزمة ما أبوابها على طول أو عرض العالم العربي حتى يزدهر سوق التطرف والمزايدات، وتبدأ أسهم التحليلات العاطفية والعنتريات الطائفية وأناشيد الجهاد الرخيصة بالصعود عاليا، وبشكل لا علاقة له بالواقع ولا بخلفيات الأحداث وتقدير تداعياتها، خالقة جوا كئيبا من التشنج، لا يسمح للغة العقل والتوازن بالوجود.

فعلى مدى الأيام المنصرمة، ومنذ اليوم الأول لهجوم داعش على الموصل والأنبار بالعراق، كان للتطرف نصيب الأسد من الحضور؛ إذ أخذ المطبلون من «مجاهدي مواقع التواصل الاجتماعي» بزمام المبادرة؛ بشحذ همم الناس، ودعوة المراهقين للقتال، بشكل أعاد للذاكرة تفاصيل وسيناريوهات الحدث السوري في بدايته، وهو الأمر الذي ينبئ - في المستقبل القريب - بتزايد حدة المعارك، وباتساع رقعة المجازر، ذات الطابع الطائفي، إلى خارج حدود الخارطة العراقية، بشكل أكثر خطورة مما كنا نشاهده بسوريا على مدى السنوات الثلاث المنصرمة. وهو الأمر - أيضا - الذي لن يمر مرور الكرام، ولن يعود التاريخ فيما بعده كما كان عليه من قبل.

هناك حقيقة لا يمكن لعاقل أن يتجاهلها مفادها: إن فساد الدولة العراقية لم ينتهِ عام 2003. رغم تغير شكل الحكم جملة وتفصيلا. بل إن كل ما جاء فيما بعد، كان رد فعل على سنين من القهر والويل والثبور أعادت إنتاج كل الويلات، وتفاصيل الفساد، والظلم والقهر التي كانت قائمة في ظل النظام السابق، خصوصا إن أخذنا بعين الاعتبار، غياب خطط عمل حقيقية، وقلة الخبرة لدى كل الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003.

سياسة التعنت والعناد والارتجال وتصفية الحسابات المبنية على روح الثأر الطائفي وتراكمات الماضي، كانت هي الثابت في سلوكيات كل أطراف اللعبة السياسية بالعراق. وهو الأمر الذي أعاد إنتاج أزمات الماضي وزاد من تعقيداته. فكان المشهد برمته هو انتقال عباءة الجلاد من كتف الظالم إلى كتف المظلوم، دون أن تتغير روح الفساد والفوضى، بشكل جعل الإنسان العراقي العادي أكثر يأسا من تحقيق الأحلام بوطن يضمن الحد الأدنى من الكرامة والشراكة والتسامح.

استراتيجية الفوضى تلك توجت بهجوم «داعش» على الموصل والأنبار، الأمر الذي تحولت بسببه البلاد إلى مسرح عريض من المواجهات العسكرية والمناظرات الإعلامية ذات الطابع الطائفي المتشنج، بشكل هدد وما زال يهدد المنطقة برمتها، وليس العراق فحسب، في فترة لم تتجاوز الـ24 ساعة. وبشكل يدل على أن حتى المؤسسة الأمنية والعسكرية مصابتان بداء الترهل والارتجال والطائفية.

اختزال فساد الحكم بالعراق بفئة معينة دون غيرها، أمر ينطوي على الكثير من خلط الأوراق والمغالطات؛ فالفساد حقيقة قائمة تنخر خلاياه وأعضاؤه جسد الوطن العراقي من ألفه إلى يائه، وتكابد ويلاته كل الطوائف، بلا استثناء. فالمأزق السني بالعراق يشبه بتفاصيله المأزق الشيعي، خصوصا إن أخذنا بعين الاعتبار أن الطرفين كانا وما زالا عاجزين عن الخروج من فضائهم الطائفي إلى فضائهم الوطني الأشمل، دون أن نغفل أن هذا لا يتأتى إلا بوجود سلطة شرعية معترف بوجودها من قبل كل الأطراف، مركزية بهيكلها القانوني، مرنة بتعاطيها وتداولها، محققة الحد الأدنى من هيبة الدولة، ومذيبة سلطة الأطراف - سواء كانت عرقية أو طائفية أو دينية أو فكرية - في إطار «الوطن للجميع».

عجز القوى السياسية عن فرز قيادات وطنية تستطيع الانتقال بالبلد إلى بر الأمان، هو الأمر الذي أدخل البلاد مآزق سياسية معقدة أدت إلى الوقوف حجر عثرة أمام كل المشاريع والخطط لبناء دولة قوية، ووسع الفجوة فيما بين أبنائها، مما زاد من ضعف مؤسساتها ومزق هويتها وزاد من عزلتها الإقليمية.

طموح شيعي كبير للحصول على الرضى والدعم الإيرانيين بشتى الوسائل، في ظل غياب دعم وتنسيق عربيين. وتنافس محموم من أجل السلطة والنفوذ والمال، من قبل أغلب أطراف الطبقة السياسية الشيعية التي تحكم وتقتل وتفسد باسم التشيع، وترفع شعاراته الطائفية أكثر من أي طائفة أخرى. يسوِّق له إعلام طائفي لاختيار الشخص الأكثر تدينا من بين مرشحيهم ليمثلهم بكل المحافل الوطنية والمراكز الإدارية، على اعتبار الطائفة هي باب الطهارة للدخول في عالم السياسة والفكر والاقتصاد والأدب في مجتمع يشبه بتعاطفه مع أصحاب التوجه الديني كل المجتمعات العربية الأخرى. يقابل تلك الفوضى الشيعية حنق سني عام، وعجز عن الاندماج بالعملية السياسية تقوده طبقة مورطة هي الأخرى بطائفيتها، ومشبوهة بجزئها الأكبر بالدم وبالمال العراقي من جهة، حائرة من جهة أخرى بين قوى الإرهاب المتمثلة بـ«داعش» وخلايا «القاعدة» المتطرفة التي وجدت الإقليم السني حاضنا لها ومتسترا على الكثير من سلوكياتها ووجودها، ظنا منها أنه يصب بمصلحتها، إضافة إلى موقفها الحائر من فلول النظام السابق ومن بقي من الفارين من وجه العدالة، المطالبين بعودة حكم الحزب الواحد، محملين كل السنة من ورائهم - ظلما وعدوانا - الشعور بالهزيمة عام 2003، على اعتبار أن «نظام صدام حسين كان يحكم باسم السنة»، بينما هو لم يكن إلا نظاما فاشيا ورط العراق، جملة وتفصيلا، بالحروب وحمل المواطن العراقي بلا استثناء من زاخو شمالا إلى البحر جنوبا والمنطقة تبعات سلوكه الأرعن وجرائمه. وهنا وجد السنة كل خياراتهم، بسبب طبقتهم السياسية، محصورة بمجابهة الدولة والخروج عليها بالسلاح لاستعادة الحق المسلوب بالحكم، أو لنيل المطالب، حتى وإن كانت «داعش» هي الوسيلة.

على كل الأطراف المتصارعة اليوم، وفي مقدمتها حكومة المالكي، أن تعي أن خيار الوطن العراقي بشكله الكلي، هو تغيير الوضع الراهن برمته، وليس تغيير طائفة دون أخرى، كما يروج له أمراء الحروب الطائفية من كل الأطراف. كما على هذه القوى أن تدرك أيضا أن المعركة اليوم قبل أن تكون بين أبناء الوطن الواحد، يجب أن تكون مع النفس بمجابهة صناعة الفساد، بكل أشكاله سواء كان شيعيا أو سنيا.

لا يمكن لسياسة الإقصاء الطائفي أن تكون قانون وسلوك حكومة تدير بلدا متنوعا بحجم العراق. ولا يمكن أيضا لمشروع طائفي أن يشعل شرارة ثورة وطنية ما دام قائما على الإرهاب وقطع الرؤوس واغتصاب النساء والتهديد بنبش القبور وهدم الكنائس والآثار، واحتضان «داعش»، ومؤازرة فلول البعث، والقبول به على مستوى الهدف أو الوسيلة.

فعلى كل أطراف اللعبة السياسية أن تعيد النظر بطريقة وأسلوب ولغة وأدوات تعاطيها مع نفسها قبل الآخر، وأن تدرك أنه لا وجود لوطنها خارج نسيجه العربي أولا، سواء كان شيعيا أو سنيا. فلا المشروع الإيراني الطائفي هو الخيار الأوحد لبقاء الشيعة على قيد الحياة، كما يصور متطرفو الشيعة ذلك، ولا هو المظلة الأكثر أمنا لضمان الاستقرار والحفاظ على الهوية الطائفية ورموزها، وسط هذا المحيط السني المترامي الأطراف. كما على جميع الأطراف أن تعي أيضا أن إقصاء الآخر واللجوء للسلاح للضغط عليه وتهديده وتفجير القبور وهدم الآثار والقتل - كما يدعو له متطرفو السنة وأمراء الحرب - لا يمكن ولا يجب له أن يمسي هو المشروع السني لبناء دولة، يشكل الشيعة فيها أكثر من 60 من عدد السكان. بل إن ما يشهده العراق اليوم هو مشروع توريط ليس للعراق فحسب بل للمنطقة برمتها قد يأتي بما لا تحمد عقباه بعد هذا التصعيد الطائفي ودخول «داعش» طرفا فاعلا بهذه المواجهة الطائفية الدموية والشرسة.