الفوضى الخلاقة.. هل ينسى العرب تداعياتها؟

TT

هناك كثير من الدول الأجنبية، بل وبعضها دول عربية كان لها دور كبير في نشر الفوضى الخلاقة، ودعم انتشارها حتى صارت فوضى مستقرة في الدول التي تسمى «دول الربيع العربي».

نعترف صراحة بأن مثل هذه الفوضى لم تكن لتنتشر في بعض الدول العربية لو لم تكن هذه الدول والمجتمعات لديها القابلية للفوضى، وهي التي جعلتها تعيش في هذه الفوضى لنحو ثلاث سنوات، ويبدو أنها ستكون أضعاف هذه المدة حتى يمكن أن يعود الاستقرار مجددا.

ولكن مسؤولية الفوضى لا يتحملها هؤلاء وحدهم، بل هناك دول أجنبية ومؤسسات مجتمع مدني إقليمية ودولية لعبت دورا لا يمكن إغفاله، سواء بالدعم المالي أو اللوجيستي أو حتى من خلال التجنيد الذي تم مباشرة سرا، أو تم علنا عبر برامج أكاديميات التغيير ومؤسسات نشر الديمقراطية.

لا يمكن إغفال دور الولايات المتحدة منذ إدارة الرئيس جورج بوش الابن وحتى الرئيس الحالي باراك أوباما، فهي أدوار سعت لإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط من جديد وفق أسس إثنو - طائفية كما جاء في حيثيات مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أعلنته وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس قبل سنوات.

الهدف الأميركي المعلن من هذا المشروع كان نشر الديمقراطية وحماية المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، ولكن لا أعتقد أن واشنطن استطاعت أن تجني أهدافها أو تحقق مكاسبها، فهي لم تتمكن من نشر الديمقراطية كما كانت تتصور، والجماعات الإسلامية المتطرفة التي تحالفت معها أثبتت تطرفها وتورطت في الإرهاب حتى نبذتها المجتمعات العربية، وكانت المحصلة بيئة سياسية وأمنية غير مستقرة تماما لا يمكن الاعتراف بأنها ستحمي المصالح الأميركية لأنها تتطلب بيئة مستقرة مرحليا أو حتى في المستقبل.

الإدارة الأميركية رصدت مئات الملايين من الدولارات وأنفقتها على مجموعة من مؤسسات المجتمع المدني الأميركية، والمنظمات الحقوقية الدولية بهدف التدريب والدعم من أجل نشر قيم حقوق الإنسان، والمعايير الديمقراطية، وكانت النتيجة تدخلات أجنبية واضحة في الشؤون الداخلية للدول العربية. وإذا كانت هذه الدول قد فتحت المجال أمام هذه المنظمات لفتح مكاتب لها على أراضيها بعد عام 2001، فإنها جاءت في عام 2011، أي بعد عقد كامل، وأعلنت إغلاقها بعدما تابعت الأدوار المشبوهة التي قامت بها والشبكات السياسية والحقوقية المتداخلة التي عملت على تشويه السمعة بالتداخل مع وسائل الإعلام الدولية، وساهمت في زعزعة الأمن والاستقرار.

بعد هذا المشهد بتفاصيله المعقدة وأحداثه المتسارعة، هل يعفو العرب عن الولايات المتحدة؟ وهل هناك ثمة مصالحة مع مؤسسات المجتمع المدني الأميركية والمنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية بعد كل ما قامت به في الدول العربية؟

العفو من شيم العرب وأخلاقهم، ولكن العفو دائما ما يشرط بالمقدرة، ولذلك يقال «العفو عند المقدرة»، قد يبدو الأمر من الصعوبة أن يعفو العرب عن بعض الإدارات الأميركية المتعاقبة بعدما قامت به من تدخلات في شؤونهم الداخلية، وساهمت في إسقاط نخب كانت حاكمة، وزعزعة الأمن والاستقرار في الدول العربية خلال السنوات الأخيرة راح ضحيتها الآلاف، وشرد بسببها عشرات الآلاف، فضلا عن تداعيات اقتصادية من الصعوبة بمكان حصر ملياراتها.

ملف التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية للدول التي عانت من «الربيع العربي» لا بد أن يبقى مفتوحا ولا يمكن إغلاقه بهذه السهولة، والمسؤولية التاريخية تحتم على العرب من حكومات ومؤسسات مجتمع مدني عربية العمل جديا على توثيق كل التدخلات الأميركية والأجنبية، وكذلك تدخل المنظمات الإقليمية والدولية، وتحويلها إلى قضايا للمطالبة بتعويضات عن الأضرار التي شهدتها المجتمعات العربية أخيرا.

هذا المطلب واقعي للغاية، وليس بابتكار جديد، فهناك الكثير من الحكومات التي قامت بتعويض الضحايا والأسر والحكومات أيضا على ما تسببت به من ضرر لها سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ومعيار «التقادم» ليس واردا هنا البتة، ولنتذكر المفاوضات الفرنسية - الأميركية خلال فبراير (شباط) 2014 حول إمكانية دفع تعويضات إلى عائلات الضحايا الأميركيين من اليهود، بسبب نقلهم إلى معسكرات الاعتقال بقطارات فرنسية قبل أكثر من 70 عاما.

ما دفع باريس لدفع التعويضات نتيجة الضغوط الأميركية التي واجهتها، وخشيتها من حرمان الشركة الفرنسية من بعض العقود في الولايات المتحدة تصل قيمتها إلى ستة مليارات دولار.

عربيا، من الممكن أن تفرض قيود على الاستثمارات الأميركية والأجنبية التي كان لها دور في نشر الفوضى الخلاقة في الدول العربية مقابل دفع التعويضات. وهذه الفكرة يمكن تطبيقها مستقبلا، خاصة أنه أسلوب أميركي ليس بجديد، ومن أمثلته مشروع القانون الذي قدمه برلمانيان في ولاية ميرلاند الأميركية بهدف الحد من إمكانية استثمار الحكومات في الولايات المتحدة ما لم تدفع تعويضات لليهود الأميركيين. ويمكن تطبيق هذه الفكرة في الدول العربية المتضررة مستقبلا.

الفتور الرهيب في العلاقات العربية - الأميركية، وعلاقات العرب مع الغرب، لن ينتهي سريعا، بل سيستغرق المزيد من الوقت، ولا يمكن تجاوزه تاريخيا بسهولة؛ لأن ما مر به العرب نتيجة سياسات الفوضى الخلاقة من الصعب نسيانه، ولا بد أن يبقى إلا أن يعوض يوما ما، ويتم طي هذه الصفحة القاتمة من التاريخ بين الطرفين.

* رئيس تحرير صحيفة «الوطن» البحرينية