الشاعر والموسيقي

TT

إذا سُئلت عن عباقرة ألمانيا لن تتردد في الاسمين الأولين: بيتهوفن الموسيقى، وغوته الشعر. ولو طلب إليك أن تجمعهما في مشهد سينمائي واحد كم ستعذب مخيلتك. لم يتعارفا في برلين أو ميونيخ بل في بلدة صغيرة تدعى تيبلتز. كان ذلك العام 1812، حين الشاعر في الثالثة والستين، والموسيقي في الثانية والأربعين. عندما كانا يسيران جنبا إلى جنب في الشوارع كانت ألمانيا كلها تبدو بينهما، يقول رومان رولان في كتابه «غوته وبيتهوفن».

خلال نزهاتهما في الشوارع. كان يمر بهما النبلاء والأرستقراطيون، فيؤدّي الشاعر انحناءة الاحترام فيغضب الموسيقي: «ماذا تفعل؟ امشِ صلباً ولا تلتفت، وسوف يهابونك أكثر. أنا لا أعاملهم هكذا إطلاقاً. وعندما تصادفا على رصيف واحد مع الإمبراطورة وحاشيتها، شبك بيتهوفن ذراعه بذراع غوته وقال: «لن نفسح لهم الطريق. عليهم أن يَدَعونا نمرّ». ثم وقف غوته جانبا ورفع قبعته، بينما «اقتحم بيتهوفن الجماعة مثل دب».

في صيف ذلك العام كتب الموسيقي إلى صديقة غوته: «عندما يمر بنا الوجهاء، غوته وأنا، يجب أن يعرفوا بأي عظمة يمرون». وروى لها ما حدث في تيبلتز، ثم قال: «الموسيقي شاعر أيضا، ولو كنتِ صديقتي لوضعتُ من أجلك أجمل القطع. إن سحر زوجين من العيون قد ينشر الروعة في صدر الموسيقي وينقله إلى عالم أكثر جمالا». أما غوته فكتب إلى صديق له في سبتمبر (أيلول) من ذلك العام: «لقد تعرفت إلى بيتهوفن. إن موهبته تذهلني، لكنه للأسف لا يملك السيطرة على نفسه إطلاقاً. لا شك أنه على حق في أن يجد العالم مدعاة للازدراء، لكنه إذ يتصرف بهذه الطريقة فإنه لا يسهل الأمر على نفسه أو على غيره إطلاقا. لكن يجب أن نمنحه العذر لأن سمعه بدأ يضعف كثيرا. وربما كان ذلك يؤثر على حياته الاجتماعية أكثر من تأثيره على عطائه الموسيقي. إنه ساخر بطبيعته ويزيده ضعف السمع حدّة».

عثرت على هذه المادة في كتاب بعنوان «عصر السفر الذهبي» (1951) يحمل مختارات من أدب الترحل لأهم وأشهر كتاب وفنّاني أوروبا وأميركا. ماذا تقول لك هذه المجموعة المذهلة من الأسماء؟ تقول إن السفر كان مادة أساسية عند كبار الكتّاب. مارك توين، أحد أشهر كتّاب أميركا، بنى مادته مثلما يبني النحل قرص الشهد من تجواله حول العالم، ومنه لبنان، حيث كان لاذعاً ومرحاً كما في كل مكان آخر.

أغلقت أكثر مكتبات الكتب المستعملة أبوابها في نيويورك، إلا من «ستراند» و«أرغوسي». وكل مرة أذهب إلى الأخيرة بأدوارها الخمسة، أعثر على الكثير من الجديد في هذا الكثير من القديم. معظم الزبائن من نحو جيلي. وكذلك معظم العاملين والعاملات. وكلما كان أهل الكتب أكبر سنّاً، أتاك بالأخبار من لم تزوَّد.