حرية الإعلام

TT

على الرغم من صدور مواثيق دولية حول حرية الإعلام، وضرورة تأكيد هذه الحرية كقيم راسخة ومعمول بها في عالم الإعلام، فإن هامشًا بسيطًا من هذه الحرية يُمارس على أرض الواقع، وبناءً على مزاج الحكومات التي تسعى إلى «تفصيل» قوانين خاصة بها، قد تتجاوز مفاهيم حرية الإعلام لتصل إلى الحجر على الكلمة أو منع الصورة رغم أحقية المتلقين في تسلمها.

وكانت قد عُقدت حلقة نقاشية حول سلامة الصحافيين في إطار الدورة السادسة والعشرين لمجلس حقوق الإنسان في جنيف يوم 10/ 6 / 2013. وناقشت الحلقة ضرورة حماية الصحافيين في الأماكن الخطرة.

وفي حقيقة الأمر فإن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في ديسمبر (كانون الأول) 1948، قد أوضح بصورة جلية المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان عامة، وحقوق الرأي والتعبير من خلال المادة 19 من الإعلان. وكذلك تناول العهد الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الصادر في ديسمبر (كانون الأول) 1966 ذات الحقوق. وبذلك سقطت مقولة «الحق الإلهي»، وأن الدولة من مخلوقات الله، وأن الحاكم أيضا يستمد سلطانه مباشرة من الله، وبذلك لا يجوز أن يُسأل الحاكم إلا من قبل خالقه، ولا سلطان عليه إلا من قبل الله! (علي يوسف، حقوق الإنسان في ظل العولمة - 2010). ولقد ناهض فقهاء الدين المسيحي خلال القرنين 17 - 18 هذه النظرية، نظرية «الحق الإلهي»، إذ كانت المسيحية تؤكد على كرامة الإنسان، والحد من سلطات الملوك الدينية. وحدث صراع بين الفقهاء والكنسية، وجرى التوصل إلى تفسير قول المسيح عليه السلام «دع لقيصر ما لقيصر.. وما لله لله» على أنه دعوة لفصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية، وتوصلوا إلى أن للسلطة سيفين:

1 - سيف السلطة الدينية ويودعه الرب للبابا في الكنيسة.

2 - سيف السلطة الزمنية ويودعه الرب بإرادته المباشرة للإمبراطور.

وتطور الأمر في أوروبا حتى وصلوا إلى ما اعتقدوه صوابًا أن «الدولة هي نظام اجتماعي فرضه الغالب على المغلوب»، أو أن «الدولة تخضع لقانون حكم الأقوى»، كما أشار بلونارك، أو «الظفر بالحرب هو بمثابة حكم أصدره الإله لصالح من عقد له النصر» كما ذهب بلنتشي.

ولقد تواجه الفلاسفة والمفكرون في أوروبا مع ضغوطات الكنيسة التي حاولت فرض قيود على حرية الفكر والإبداع ردحًا من الزمن، حتى جرى التوصل إلى فصل الدين عن الدولة، ومن ثم التوجه نحو البناء السياسي المعتمد على دور الشعوب في إدارة نفسها ما أدى إلى شيوع الديمقراطية.

في العالم العربي تبدو الصورة مختلفة جدًّا، حيث توجد أنظمة حكم عسكرية، توارثت الحكم دون رجوع إلى الشعب، أو عبر أحزاب صورية تعطي الحاكم 99.99 في المائة من الأصوات، وتغيّب صوت المعارضة، حيث بقي حكام عرب يحكمون بالحديد والنار لأربعين عامًا، حتى جاء الربيع العربي متأخرًا جدًا وأطاح بهم. كما توجد أنظمة حكم اقتربت من نظرية «الحق الإلهي» بصورة مختلفة، وظلت تحكم لقرون طويلة.

وعندما نشأت الدولة العربية الحديثة، بعد التخلص من حكم الاستعمار أو الانتداب الذي فرضته اتفاقية «سايكس بيكو» برز الإعلام كسلاح لا يقل أهمية عن الدبابة؟! وتفنن «دهاقنة» السياسية في وضع الأطر والقوانين والنماذج التي لا تسمح لأي كائن من الاقتراب من «خصوصيات» الدولة الحديثة، فصارت لجان الرقابة ليس في وزارات الإعلام فحسب، بل في دهاليز الإدارات الأمنية، التي كانت تتلصص على أية كلمة أو صورة يمكن أن تحمل انتقادًا أو «رائحة» انتقاد للحكم أو حتى لأي جهاز من أجهزة الدولة، حتى لو كان ذلك برامج التلفزيون.

وطبقًا لذلك، ظهر «الإعلام التنموي» الذي اعتمد على الدعاية السياسية المفرطة، وعدم جواز التعرض بالنقد لأجهزة الدولة، مهما كان عطبها أو فسادها، كما تمت محاصرة الأقلام التي تسعى إلى الإصلاح العام، أو تلك التي «يُشتمّ» منها الترويج لصوت العقل أو الواقعية، التي اعتبرت «جارحة» لتوجه «الإعلام التنموي»، وبالتالي مخالفة لتوجهات أو قيم «الحق الإلهي» في صياغة شكل ورسائل الإعلام. ومع تطور الدولة الحديثة جرى تخفيف القيود على الكلمة في بعض الدول العربية، بعضها بشكل دعائي وغير مُطبق، وبعضها بشكل يحكمه قانون النشر أو المطبوعات، الذي هو الآخر «مُكبل» لحرية الكلمة. وجاءت الموجة الأخيرة من التحولات في ما عُرف بالربيع العربي، حيث «أفلت» الزمام من يد الدولة بعد سقوطها، وبالتالي سقطت قوانين النشر، بل ووزارات الإعلام، وظهر إعلام الفوضى وإعلام العيب، وإعلام العبث، وإعلام التكفير، وإعلام اللعن، وإعلام الكذب. ودخلت الدول العربية موجات متلاحقة من المواجهة عبر الصحف والفضائيات، وبعدها دخلت الشعوب تلك الحرب عبر أدوات التواصل الاجتماعي بصورة «قميئة» وغير حضارية، وسقطت حرية الإعلام في مستنقع الفوضى.

* كاتب وأكاديمي قطري