المونديال ووحشة الحبايب

TT

يحفظ التاريخ لهواري بومدين أنه قال: «نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة». ومن الجميل أن تقف جماهير الكرة العربية في المونديال مع الجزائر، غالبة أو مغلوبة.

دمعت عيناي وأنا أستمع إلى نشيدها الوطني يُعزف في الملعب وحناجر لاعبيها، ومعهم آلاف المشجعين، تردد «قسما بالنازلات الماحقات.. والدماء الزاكيات الطاهرات.. نحن ثرنا فحياة أو ممات.. وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر... فاشهدوا». واستغرب الجالسون معي، أمام الشاشة، من درجة تأثري وسخر أحدهم قائلا: «يبدو أنك لم تشفي من العروبة بعد».

هل صارت العروبة داء يحتاج دواء؟ إن هاتين العينين دمعتا في موقف مماثل، قبل أكثر من عشر سنوات، حين تقابل منتخبا الجزائر وفرنسا على ملعب «استاد دو فرانس» بباريس، في أول مباراة ودية. لقد كانت لحظة تاريخية أن تعزف فرقة موسيقية فرنسية النشيد الوطني الجزائري، في ملعب يكتظ بآلاف المشجعين، غالبيتهم من أبناء مهاجري المغرب العربي. كنت أفكر في أن الشعوب المتحضرة تعرف كيف تعبر فوق الماضي الدموي وتفتح صفحة يتصالح فيها المستعمَر (بفتح الميم الثانية)، مع المستعمِر (بكسر الميم). من كان يصدّق أن يلعب أحفاد المليون شهيد الكرة مع أبناء المحتل وعدو الأمس؟

يبدو أنني كنت متفائلة؛ إذ حالما انتهى النشيد الجزائري وبدأت الفرقة بعزف «المارسييز»، النشيد الوطني الفرنسي، ارتفع الصفير في المدرجات بشكل أحرج المعلق التلفزيوني فراح يتلعثم ولا يعرف كيف ينقل الحدث، لا سيما أن رئيس الوزراء، آنذاك، ليونيل جوسبان كان حاضرا في الملعب. ولم تكن تلك هي المرة الأولى، فقد سبق أن قوبل «المارسييز» بالاستهانة أثناء مباراة بين فريقي فرنسا وتونس. ثم تكرر الأمر في مباراة ختام كأس أندية فرنسا، بين فريقي «لوريان» و«باستيا» فريق جزيرة كورسيكا التي يطالب قسم من أهلها بالاستقلال. وقد كان الرئيس شيراك واقفا في المنصة الرسمية، لا يصدق ما يسمع. وتركزت عليه كاميرا التلفزيون وهو يلتفت إلى الوزير الواقف بجواره ويقول: «هل يصفرون؟!»، ثم يغادر المدرجات غاضبا. وفيما بعد، صدرت تعليمات تقضي بمعاقبة كل من يهين الرموز الوطنية الفرنسية وتغريمه ثمانية آلاف يورو.

كتب كلمات النشيد الجزائري مفدى زكريا، ابن غرداية الملقب بشاعر الثورة. وقام بتلحينه الفنان المصري محمد فوزي «هدية للشعب الجزائري». وحين جرى اعتماده، بعد الاستقلال، طلبت فرنسا حذف المقطع الثالث منه الذي يقول: «يا فرنسا إن ذا يوم الحساب... فاستعدي وخذي منا الجواب». لكن الجزائريين لم يلتفتوا للطلب، لأن فرنسا لم تكن قد اعترفت بجرائمها في بلدهم. ومن المفارقات أن شخصيات فرنسية كثيرة تطالب، حاليا، بحذف مقاطع من النشيد الوطني الفرنسي لأنها عنيفة وتحرض على سفك الدماء ولم تعد تناسب العصر.

رحل مفدى زكريا في تونس، عام 1977، بالسكتة القلبية. أما محمد فوزي، الفنان الذي غنى للكبار «وحشونا الحبايب والله» وللصغار «ماما زمانها جاية»، فقد أودى به مرض غريب، عام 1966. وقيل إنه مات مهموما بعد أن أممت ثورة يوليو «مصر فون»، شركته الخاصة لإنتاج الأسطوانات وعينته مديرا لها بمرتب 100 جنيه في الشهر.