مسؤولية الكلمة وحرج المكانة

TT

مؤلم حقا مشهد الأطفال والمراهقين وهم يصطفون في طابور التطوع الذي نادى به المرجع الشيعي الأعلى آية الله علي السيستاني قبل أيام، دفاعا عن العراق ضد زحف «الإرهابيين» كما ذكر في مضمون الدعوة. مع أن الميليشيات الشيعية المتمثلة بجيش المهدي وقوات بدر وغيرها من الميليشيات كفيلة عدة وعتادا بأن تكون الجيش الرديف الذي كان يعنيه نوري المالكي ليستعين به في وجه تقدم «داعش» تجاه بغداد.

المرجعية السيستاني، بمقامه الديني الرفيع لدى الطائفة الشيعية، تحظى مواقفه بالكثير من التقدير في نفوس أتباعه، ويكفي أن ينادي السيستاني بالخروج في تظاهرة، أو يدعو لضبط النفس، حتى تمتثل له كل الرموز الشيعية على الساحة السياسية.

هذا ما يجعلنا نعتقد أن للسيستاني دورا كبيرا في هذه المحنة القائمة اليوم في العراق لم يؤده بعد. لذلك ندعوه، حبا في العراق، أن يعود لدوره الفاعل المتمثل في الدعوة للتهدئة ووحدة الصف الذي كان إبان الاحتلال الأميركي للعراق.

السيستاني اليوم يأبى أن يتدخل في الشأن السياسي، ويؤكد أن على المراجع الدينية أن تنأى بنفسها عن العمل السياسي، وفي هذا الكلام عمومية وجيهة، لكنها تخالف ما كان يقوم به السيستاني فعليا منذ زوال نظام صدام حسين وحتى تولى نوري المالكي رئاسة الحكومة العراقية.

كان المرجع الشيعي الكبير يهدد ويتوعد الأميركان في 2004 بأنه سيدعو إلى مظاهرات واحتجاجات تعم العراق إن لم تقم الانتخابات، مما اضطر واشنطن للاستعانة بكوفي أنان، الأمين العام للأمم المتحدة وقتها، للوساطة والتوضيح أن الظروف الأمنية والسياسية غير ملائمة للقيام بعملية انتخابية. ومع الوساطات تأجلت الانتخابات حتى عام 2005. حينها تحالف الشيعة في قائمة واحدة، دخلت فيها الأحزاب الشيعية بثقلها، وأعلن السيستاني دعمه لها، بل وأعطى موافقته بأن تتصدر صوره الدعاية الانتخابية للقائمة، مما جعلها تحصد أصوات شيعة العراق بكل سهولة وتفوز بالانتخابات مع مقاطعة السنة لها. أضف لهذا دعوته أن يتضمن دستور العراق الجديد منهج آل البيت لأنه دستور الأغلبية كما يرى. إذن السيستاني يتدخل فعليا في عمق العملية السياسية، وتأثيره محسوس ومشهود في أكثر المناسبات أهمية في تاريخ العراق المعاصر، وهو ما يتماهى مع موقعه من حيث إنه يعتلي قمة هرم المرجعية الدينية لدى طائفة معروفة بعاطفتها الجياشة تجاه رموزها.

قد يبدو أن للسيستاني الحق في الدعوة لمقاومة التنظيم الإرهابي «داعش»، فهو تنظيم منبوذ ومحارب من العقلاء وأهل التوجه المعتدل، إنما من غير المعتاد أن ينادي السيستاني، الذي عرف عنه مطالباته المتكررة للتهدئة ضد المحتل الأميركي، إلى حمل السلاح، لأن تأثير هذه الدعوة ليس في التحشيد فقط، بل في تعزيز الفرقة وتكريس الغموض. كان من المنتظر من السيستاني أن يوضح الفرق بين «داعش» والثائرين المطالبين بحقوقهم من أبناء العشائر السنية، خاصة وهو الذي قدم مبادرة حكيمة خلال احتجاجات الأنبار قبل عام، دعا فيها المالكي إلى عمل مسح شامل للمعتقلات والسجون والإفراج عن المظلومين ممن لم يتورطوا فعليا في الدم، ودعاه كذلك إلى توسيع المشاركة في العملية السياسية لتشمل الجميع بلا استثناء، وأكد أنه يقف مع السنة في المطالبة بحقوقهم.

«داعش» تهدف إلى عرقلة السنة في طريقهم إلى حقوقهم المشروعة، والمالكي يعلم ذلك، ولهذا يذيع بأن عدوه الأوحد هو «داعش»، بينما عدوه الأساسي هي نفسه التي تسلطت على طيف واسع من الشعب العراقي عانى تحت حكمه من التهميش والظلم والحرب النفسية. و«داعش» في سبيل إفشال الثورة العشائرية، أصدرت مؤخرا بيانا تعلن فيه أنها تستهدف الأضرحة والمراقد الشيعية لتسويها بالأرض. وهذا ما يؤكد أن هذا التنظيم الخبيث يهدف إلى إثارة حنق عوام الشيعة ضد الثوار السنة، وهذا الهدف لا يسعى إليه إلا من أراد بالعراق أن يستمر بؤرة للخلافات الطائفية، مستعبدة باسم المذهب، ليس «داعش» فقط بل إيران بالدرجة الأولى.

بكل أسف فإن السيستاني دعا الشيعة لحمل السلاح دفاعا عن «العتبات المقدسة والمزارات الشيعية»، ثم عاد في الجمعة التي تليها ليصحح دعوته بتوجيهها لكل العراقيين. إنما الأصح أن تكون هذه المواقع الدينية تحت حماية الدولة، والدولة هي من تستنفر الناس وتدعوهم للانضمام للجيش، لا أن يستعان بعوام الناس ببساطتهم وقلة إدراكهم، واستخداما لعواطفهم الدينية القابلة للاشتعال.

والمفارقة في موقف المرجع السيستاني أنه خلال الوجود الأميركي في العراق وبعد تفجير ضريحي الإمامين علي الهادي وحسن العسكري في 2006 لم يدعُ العراقيين إلى حمل السلاح ضد من قاموا بالتفجير! بل إلى الاحتجاجات والحداد، حتى لا تراق المزيد من الدماء! وهذا موقف ضبط للنفس غير مسبوق!

وحتى خلال المقاومة الشيعية المحدودة للمحتل الأميركي من خلال الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، والمعارك التي نشبت بينه وبينهم في النجف وكربلاء في 2004، مارس السيستاني ضغوطه على الصدريين حتى أوقفوا القتال ضد الأميركان. وكان السيستاني قد قرر سلفا، مع كل القوى الشيعية، منذ غزو أميركا للعراق في 2003 أن يكون منهجهم سلميا مع قوات الاحتلال، بغية الحصول على مكتسبات للشيعة كما ذكر وكيل المرجعية نصا: «هناك رؤية موحدة تقوم على أساس مقاومة الاحتلال بالوسائل السلمية، وعبر السبل السياسية الكفيلة بانتزاع حقوق الشيعة بما يتناسب وحجمهم السكاني».

لا أحد يستطيع أن يلقي على الشيعة باللوم في دفاعهم عن مكتسباتهم السياسية التي تحصلوا عليها بعد سقوط نظام صدام، فقد انتهزوا الفرصة المواتية التي قدمها لهم الوجود الأميركي والدعم الإيراني، إنما صدام لم يكن يضطهد الشيعة وحدهم، بل كل من يخالف معتقده البعثي، ونعلم كيف أباد قرى للسنة الأكراد، وسجن وقتل وهجر الكثير من السنة العرب، ونعلم كذلك أن من الشيعة بعثيين كانوا في دائرة صدام حسين الضيقة، مثلوا ثلثي قائمة الـ55 بعثيا المطلوبة من قوات التحالف في 2003 التي تصدرها صدام.

للسيستاني تقدير كبير لدى الأطياف العراقية على اختلافهم، وله مكانته كذلك في العالمين العربي والإسلامي كرجل دين، ولهذا يعول عليه خلال هذا الوقت المأزوم أن يكون عونا للعراقيين؛ إما بتوظيف نفوذه وتأثيره الكبيرين في مبادرة أو خارطة طريق تقوض الطائفية وتستبعد رموزها صراحة، أو أن يلتزم بمبدئه وينأى بالمرجعية الدينية عن العملية السياسية برمتها، وهو إن فعل، رفع عن نفسه مسؤولية الكلمة، وحرج المكانة.

[email protected]