قبلة لحماة القبلة

TT

من كان في مصر يوم هبوط طائرة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله في مطار القاهرة كان سيحس بتلك الطاقة الإيجابية التي سرت في جسد الوطن المصري ومواطنيه. كل المصريين على اختلاف توجهاتهم أحسوا برسالة الملك. الرسالة التي كهربت الجسد المصري هي أن الملك عبد الله بن عبد العزيز أبى ألا يكون هو السباق بالزيارة ليرد بوضوح لا لبس فيه أن قامة مصر عالية وأن مصر هي قائد الأمة العربية. الملك عبد الله كان يرد على حملات أرادت النيل من مصر والتي تحدثت بسلبية عن أن زيارة الرئيس المصري للسعودية كأول زيارة له خارج الوطن تجعل قراره مرهونا للمملكة. الملك عبد الله هو الذي أتى إلى مصر ولم ينتظر مجيء الرئيس المصري إلى المملكة. فهل وضحت الرسالة؟ هذه اللفتة الملكية الكريمة هي التي جعلت الرئيس عبد الفتاح السيسي يقبل رأس الملك بعفوية وبكهرباء الطاقة الإيجابية التي سرت في جسده كما سرت في جسد جموع المصريين، فمن تابع لغة الجسد ونغمة الصوت ومفردات اللغة عند الرئيس عبد الفتاح السيسي من زيارته إلى «فتاة التحرير» وطريقة اعتذاره لها، إلى تقبيل رأس الملك يدرك أن الرئيس السيسي يمثل المتوسط الحسابي للأخلاق المصرية في أبهى صورها. احترام الكبير والحنو على الصغير.. هذا هو السيسي. وهذا تحليل لا تملق. فقد أكون أكثر قدرة في الحكم على ما يقوله خادم الحرمين لأنني التقيته وجها لوجه أكثر من مرة ولأكثر من ساعة في كل مرة، ولكنني لم ألتق الرئيس السيسي. رسالة الملك عبد الله الثانية هي أن مؤتمر الأصدقاء والأشقاء لدعم مصر ليس كمؤتمر المانحين لسوريا، وإنما هو دعم للدولة الرائدة في الإقليم لكي تتبوأ مكانتها الطبيعية وكلي ثقة أن تلك كانت مشاعر الملك عبد الله تجاه مصر والتي سمعتها من خادم الحرمين في أكثر من موقف. هل كنا كمصريين في حاجة إلى تلك الوقفة الملكية في مطار القاهرة؟ الإجابة البسيطة هي نعم ونعم جدا إذ كانت في الزيارة تهنئة وتضميد جراح لوطن مر بمحنة ولذلك كانت القبلة لحماة القبلة بالنسبة لنا واجبة وأراد رئيسنا أن تصل الرسالة للجميع بأن علاقة مصر بالمملكة بها شق عاطفي قوي تترجم حرفا معنى التقاء الشقيق بشقيقه. القبلة غيرت المصريين وغيرت السعوديين في لحظتها وأحيت في الشعبين وشائج القربى والمحبة. نعم كنا في حاجة إلى الزيارة الملكية، ولكننا لم نطلبها ولما أحس الشقيق بحاجتنا لدعمه لم ينتظر رئيسنا كي يذهب إلى المملكة، بل جاءت المملكة إلينا. إنها فروسية الملك عبد الله وشهامته، قيم الشعب السعودي ممثلا في قادته ممن كانوا في الطائرة. ما قاله الملك في هذا اللقاء وبعده عن شعب مصر المؤمن والمعتدل في إيمانه وعن عمق العلاقة المصرية السعودية يكفينا كمصريين، فالملك عبد الله لا يقول إلا ما يحس به والرسالة وصلت من الطائرة الملكية إلى كل ربوع القطر المصري.

مصر تحتاج إلى المملكة والمملكة تحتاج إلى مصر وليس بالمعنى السوقي الذي تريد أن تروج له بعض القنوات في إطار تابع ومتبوع. من يركب أي طائرة يعرف أن القيادة لطيار ولطيار مشارك (copilot) وربما اثنين، ثقافتنا تسمي هذا مساعد طيار، لأننا تعودنا على هذه الصيغ من التعاون وإنما في الغرب الثلاثة، طيار وطياران مشاركان، تعني الشراكة الكاملة في المسؤولية. إذن عندما نتحدث كما ذكرت في مقالات سابقة في هذه الجريدة عن مثلث استراتيجي جديد كنت أعني أن في قمرة قيادة الأمة العربية ثلاثة طيارين هم مصر والسعودية والإمارات، ولا تبعية أو تراتبية هناك في من يكون أهم من من؟ شراكة مصر مع السعودية والإمارات كما قمرة القيادة في الطائرة أيا كانت التفسيرات القادمة من الإخوان أو داعميهم أو من لف لفهم.

في صحيفة «مصر 11» المصرية كتبت مقالا في يوم الزيارة رسمت فيه ملامح اللقاء قبل حدوثه، ليس بناء على تخمينات بل بناء على معلومات سميته «السفينة والطائرة» وقلت فيه إن لقاء الطائرة الملكية بين «كبير العرب» كما سماه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشقيقه رئيس مصر المنتخب والذي استدعاه الشعب ليقود مصر في تلك اللحظة الحرجة يرسم ملامح مرحلة وعلاقة استراتيجية جديدة لا تقل في متانتها وصلابتها عن لقاء الملك عبد العزيز مع روزفلت على السفينة الأميركية كوينسي، ذلك اللقاء الذي حدث في فبراير (شباط) 1945 وحدد التزام أميركا بأمن الخليج من يومها إلى الآن. لقاء السفينة جاء في لحظة فارقة في تاريخ الشرق الأوسط والحرب العالمية الثانية تضع أوزارها ولقاء الطائرة غدا سيرسم ملامح مثلث استراتيجي جديد أضلاعه السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة. وقد فوضت قيادة الإمارات الملك أن يتحدث باسمهم في لقائه مع الرئيس المصري كما فوضوه من قبل حين أتى الرئيس الأميركي إلى السعودية منذ أكثر من شهر. التفاهم السعودي المصري الإماراتي المدعوم عربيا هو رد الملك عبد الله بن عبد العزيز على الموقف الغربي تجاه مصر. الملك عبد الله خير خلف لخير سلف استبدل السفينة بالطائرة. السفينة رمز للعلاقات مع أميركا والغرب، ولكن كما كان واضحا من موقف السعودية بعد ثورة المصريين في 30 يونيو (حزيران) 2013 التي أطاحت بنظام الإخوان رئيسا وتنظيما، عندما خير الغرب الملك عبد الله بين مصر وأميركا، اختار مصر بلا تردد. أرسل الملك عبد الله وزير خارجيته سعود الفيصل إلى باريس برسالة واضحة مفادها أن الاعتداء على مصر هو اعتداء على المملكة ومصالحها. تكررت ذات الرسالة وبوضوح أكبر في تهنئة للرئيس السيسي والتي دعا فيها الملك الأشقاء والأصدقاء من القادرين المقتدرين إلى دعم مصر. وحذر قائلا: إن من لا يقف مع مصر الآن وفي وقت الشدة لن يجد العرب واقفين معه عندما يحتاجهم. الملك عبد الله واضح وصريح وغير موارب. وأشهد على ذلك من خلال ثلاثة لقاءات مطولة أتاحها لي للاستماع إلى رؤيته والتي نشرتها بعدها في جريدة «الشرق الأوسط». في كل لقاء كانت كلمات الملك لا تقبل تأويلا أو لبسا. كلمات واضحة المعالم والمعاني. ورئيسنا المصري عبد الفتاح السيسي ليس أقل وضوحا أو حسما. لست من مدرسة الفنان فريد الأطرش في الصحافة العربية كي أدعي أن الملك «قال لي وقلت له»، فلا أخلاقي ولا تدريبي الأكاديمي يسمحان لي بأن أطلق العنان للخيال. فقط أنقل الحقيقة كما أراها. والحقيقة هي أن الملك عبد الله يحب مصر.

لقاء الطائرة في تبعاته التاريخية ودلالاته لن يقل عن لقاء السفينة. ولتستبشر مصر والمنطقة خيرا كثيرا من هذا اللقاء رغم أنف الحاقدين والمتربصين. اللقاء لم يكن مجرد سلام أو تهنئة، بل كان لقاء رسميا موسعا على متن الطائرة الملكية. فيه وفدان رسميان يناقشان القضايا الرئيسية فيما يخص مصر والمنطقة برمتها ودور مصر في أمن الخليج والمشهدين في سوريا والعراق. لقاء الملك والرئيس سيحسم كثيرا من القضايا وسيسعد الشعب المصري بهدية الملك عبد الله لمصر ورئيسها.

وجود وزراء الخارجية والمالية والأمن الوطني السعودي وما يقابلهما في الطرف المصري يكشف ملامح اللقاء رغم قصر مدته. كما أن ظهور الأمير بندر بن سلطان على متن الطائرة الملكية ووجود وزير الدفاع المصري يوحي بأن اللقاء أيضا رسم الخطوط العريضة للأمن الإقليمي.

نحن فخورون بما فعل الرئيس السيسي لأن تلك هي مشاعر السواد الأعظم من الشعب المصري. وما دار من حوار بين القائدين هو بداية لقيادة مشتركة للأمة العربية سنجني ثمارها جميعا في المستقبل.