احتواء الديمقراطية!

TT

دعا جورج كينان في مقالة سابقة له نشرت عام 1947 إلى طرح سياسة الاحتواء لكبح جماح التوسع السوفياتي آنذاك، لتصبح تلك السياسة هي الاستراتيجية المركزية الأميركية خلال حقبة الحرب الباردة.

وعقب أكثر من ستة عقود، وفي تحول غير محسوب على النحو الواجب، فإن الأنظمة السلطوية الرئيسية الحالية تعمل على تحويل سياسة «الاحتواء» لمصلحتها، وتستخدم في ذلك الموارد الضخمة وتنسيق الجهود السياسية في تحريك المؤسسات المستندة إلى القواعد التي كانت بمثابة المادة اللاصقة للنظم الليبرالية في حقبة ما بعد الحرب الباردة، في ذات الوقت التي كانت تراجع فيه طموحات الإصلاح للديمقراطيات الناشئة، وإعادة تشكيل الطريقة التي يفكر بها العالم حيال الديمقراطية.

ولنطلق عليها اسم عقيدة «احتواء الديمقراطية».

هيمنت الزعزعة الروسية لاستقرار أوكرانيا على الأخبار في الآونة الأخيرة، حيث قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم، وحرضت على قيام تمرد موهن لقوى الدولة الأوكرانية في الجزء الشرقي من البلاد. ولكن ينبغي علينا رؤية تلك الأحداث من زاويتها الحقيقية، وهي جهود الاحتواء من جانب الكرملين للحيلولة دون حصول الأوكرانيين على حكومة ديمقراطية مسؤولة. ويعد المثال الأوكراني مجرد جزء صغير من مجهود الاحتواء الضخم الذي تقف على رأسه الأنظمة السلطوية، والتي قد لا تتفق على الكثير من التفاصيل، ولكنها تشترك في ذات المصالح والمقاصد المعنية بتقييد الانتشار الديمقراطي.

تطورت الاستراتيجية على ثلاثة مناحٍ رئيسية. ويهتم المنحى الأول بالمؤسسات، والذي يعد الجهات الإقليمية والدولية المستندة إلى القواعد تشكل تهديدا مباشرا على مصالح النظام الحاكم، وقد ركز السلطويون جهودهم على إعاقة ديمقراطية المؤسسات الرئيسة وآليات حقوق الإنسان. وقد نجحت روسيا، بتعاونها مع باقي النظم السلطوية في منطقة أوراسيا، في تحجيم أبعاد حقوق الإنسان الصادرة عن مجلس أوروبا وعن منظمة الأمن والتعاون الأوروبية.

وفي داخل أروقة الأمم المتحدة، تعوق «الأخوية السلطوية» التي تتزعمها كل من روسيا والصين، العضوين بمجلس الأمن الدولي، بصورة منتظمة، التدابير الصديقة للديمقراطية على مستوى مختلف القضايا. وتمارس إيران، وروسيا، قدرا أكبر من السيطرة على شبكة الإنترنت لدى الهيئات الحكومية الدولية على مستوى العالم.

وحيث يعمل السلطويون على تقويض المعايير الديمقراطية، فقد أسسوا أنديتهم الخاصة، مثل منظمة شنغهاي للتعاون، والاتحاد الجمركي الأوراسي، التي تحاكي نظيراتها الليبرالية، ولكن بهدف إضفاء اللمسة المؤسسية على النماذج السلطوية.

وعلى نطاق أوسع من ذلك، تعمل النظم السلطوية مع بعضها البعض لمراقبة النشطاء والمعارضين وإعاقة تحركاتهم، من خلال «قوائم المراقبة»، و«القوائم السوداء» الدولية والتي يجري إعدادها داخل سياق منظمة شنغهاي للتعاون. يتصل المنحى الثاني باحتواء الديمقراطيات الصغرى والدول متوسطة الأداء ذات الطموحات الإصلاحية والتي يشكل نجاحها الديمقراطي تهديدا على الأنظمة السلطوية. تنتهج روسيا، بالإضافة إلى أوكرانيا، سياسة معرقلة حيال جورجيا ومولدوفيا الراغبتين في الديمقراطية.

وتتخذ الصين التدابير المتأنية لطرد الديمقراطية خارج هونغ كونغ.

ويكمن المنحى الثالث من مناحي الاحتواء في مجال الأفكار.

قد لا تكون تلك الأنظمة ذات آيديولوجيا واضحة من زاوية حقبة الحرب الباردة، غير أنها تدرك أهمية الأفكار، مما يفسر قدرا كبيرا من الجهود الضخمة المبذولة للحيلولة دون خروج أفكار أخرى داخل أنظمتهم الحاكمة. ومع الوقت، صارت لديهم المهارة لصقل المناقشات والمجادلات التي تشترك في تأسيس خطاب مناهض للولايات المتحدة ومناهض كذلك للديمقراطية.

ويعد ذلك من الأهمية بمكان نظرا لما أسسته الدول الأوفر حظا من ناحية الموارد – وخصوصا الصين وروسيا – من منافذ إعلامية هائلة تقليدية وجديدة تمكنهم من نقل تلك الرسائل إلى السوق العالمية. وتبدو تلك البراعة في أجلى صورها في دول العالم النامي، حيث تجري هناك معركة جديدة للأفكار. تمتلك الصين حضورا إعلاميا هائلا في جنوب الصحراء الأفريقية وقد تمكنت سريعا من اتخاذ موطئ قدم راسخة هناك، حيث تقدم قناتها الفضائية (CCTV) التي يقدر تمويلها بمليارات الدولارات برامج باللغات العربية، والفرنسية، والروسية، والإسبانية، وكذلك وكالة أنباء (شينخوا) المملوكة للدولة والتي تتوسع عالميا. وهناك قناة (RT) الروسية، بالإضافة إلى برامجها باللغة الإنجليزية المعادية للغرب بشراسة، تبث رؤيتها المستهجنة للعالم على مدار الساعة باللغتين الإسبانية والعربية.

وفي الوقت الذي يزعم فيه السلطويون أن قنوات البث الفضائي الهائلة لديهم هي لتقديم صورة حقيقية عن بلدانهم، فإن الواقع يخبرنا بأن تلك التكتلات الإعلامية الخاضعة لقيادة الدولة تكرس برامجها الإعلامية بالكامل للاعتداء على الغرب وعلى فكرة الديمقراطية.

يمكننا الاستنتاج من خلال ذلك أن العقيدة السلطوية الناشئة تعكس حاجة القادة في موسكو، وبكين، وغيرهما إلى احتواء ما يخشونه ولا يمتلكونه: المساءلة والشرعية الديمقراطية.

وباعتبار رهانات النظام الليبرالي، يحتاج العالم الديمقراطي إلى الاستعداد إلى «ماراثون طويل» عاجلا وليس آجلا للتعامل مع التحديات المتنامية التي تشكلها هجرة المعايير السلطوية غير الليبرالية إلى ما وراء الحدود.

* المدير التنفيذي للمنتدى الدولي للدراسات الديمقراطية لدى مؤسسة الوقف الديمقراطي

* خدمة «واشنطن بوست»