وجبة عشاء.. أم الطعام مدى الحياة؟

TT

حملة التبرعات للاقتصاد المصري، والتي تشوبها التغطية العاطفية أكثر من المناقشات المتخصصة في الصحافة (خاصة المرئية) عن مشاريع اقتصادية لتوظيف هذه الأموال؛ ذكرتني بمفهومين:

الأول قصص التبرع الجماعي من الماضي المصري القريب انتقالا من القرن الـ19 إلى القرن العشرين وجيل مثقفي نهضة مصر وأستاذه أحمد لطفي السيد، وجمع التبرعات لبناء جامعة أهلية (كانت هناك كليات متفرقة كمدرسة الحقوق، ومدرسة الطب في القصر العيني وكليات المعمار ومعاهد اللغات والفنون. ومشاريع بتبرعات كجمعية الإسعاف التي بدأها الأمير أحمد فؤاد (فيما بعد الملك فؤاد الأول ملك مصر والسودان)، إلى حملة الأميرة فوزية لإنشاء مستشفى المواساة للمحتاجين (كافأها الضباط الأحرار بتغيير لافتة الشارع المسمى باسمها في الإسكندرية إلى اسم قائد عسكري أجنبي لم تطأ قدمه أرض مصر أبدا!!) وغيرها.

الثاني القول الصيني: أعط رجلا سمكة لوجبة عشاء، علمه الصيد تضمن إطعامه بقية حياته.

ولهذا تساءلت: ماذا يمكنني أن أتبرع به لدعم الاقتصاد المصري، وأنا لست مليونيرا، أو حتى مليميرا بل أنا مثقل بالديون لدرجة أنني لن أكون فقط مرتاح البال عند لقائي ربي، بل سأضحك ملء شدقي من وجه مديري البنوك وغيرهم من مصاصي الدماء (الذين عشت طوال حياتي أدفع فوائد عشرات أضعاف ما استدنته من مؤسساتهم الاحتيالية أصلا) عندما أترك لهم الحياة قبل تسديد الديون.

ولذا أدعو القارئ لمشاركتي موقفا تخيليا أكسب فيه اليانصيب الخيري «المليونير الأوروبي» ولنفترض أن ورقة اليانصيب التي اشتريها بجنيهين كسبت عشرة ملايين جنيه إسترليني. وهنا أفترض نموذجا استثماريا أدعو المصريين المتبرعين إلى التفكير فيه عل أحدهم يستوعب الفكرة.

بعد دفع ديوني (بطاقات الائتمان، والسلفيات، ورهنية قرض المنزل ومساكن ابنتي وولدي) يتبقى سبعة ملايين.

مليونان أضعهما في وديعة كاللاعب الاحتياطي إذا احتاج الأمر قبل انتهاء المباراة.

كيف سأتبرع بخمسة ملايين، ثلاثة في مصر ومليونان استثمارا مكملا في لندن؟

التعليم أفضل استثمار.. هل ننجح بمدرسة، بنظام كلية فيكتوريا في الإسكندرية (قبل كارثة وزارة التربية والتعليم في 1959)؟ الإجابة لا.. لن يكون تعليما مستقلا بل سيدس من لا يفهم في التعليم أنفه البيروقراطي بلائحة تحول «الجهل» لمادة أساسية في المنهج.

فلننسَ نموذج تبرعات بناء الجامعة الأهلية.

التبرع العملي يكون في شكل قرض حسن، أي بلا ربا، والفوائد في شكل نقل ملكية الأسهم للعاملين.

قرض لمشروع استثماري عملي من خلال مسابقة للتقدم بمشاريع والفائز فيها جائزته المشاركة. الفائزون - مجموعة من الشباب والشابات من خريجي الاقتصاد والتجارة - شركاء بجهودهم ووقتهم، والقرض من عندي ولنقل ثلاثة ملايين، أي نحو 30 مليون جنيه مصري.

مثلا يقدم مجموعة الخريجين تصميم مشروع ورشة من مرحلتين؛ الأولى في المحلة أو كفر الدوار (مصانع الغزل والنسيج) والثانية في الإسكندرية.

منسوجات القطن المصري مطلوبة في أوروبا، خاصة في بريطانيا. قميص جاهز من القطن المصري مائة في المائة، لا يقل ثمنه في أرخص المحلات عن 85 جنيها إسترلينيا. أما القميص المصنوع من القطن المصري الخالص والتفصيل المناسب لأي جنتلمان يحترم نفسه، فيتكلف ما بين 250 إلى 350 جنيها إسترلينيا.

الاتفاق مع مجموعة من الترزية (جمع ترزي) وتدريبهم في إيطاليا ولندن (جزء من التكلفة الأولى للمشروع).

تصنيع القمصان في الورشة في الإسكندرية بإنتاج جملة (أي 50 ألفا من كل مقاس في كل دفعة) ستكون تكلفة القميص أقل من تسعة جنيهات إسترلينية واستخدام مراكز توزيع جاهزة مع الشراء على الإنترنت بسعر 40 جنيها فقط نصف ثمن القميص المماثل في المحلات الكبرى.. الأرباح تكون ثلاثة أضعاف.

القسم الآخر الاتفاق مع محلات الترزية الكلاسيكية حيث يشتري قطاع كبير من رجال الأعمال والساسة الكلاسيكيون ملابسهم تفصيلا، لأخذ المقاسات وإرسالها للورشة في الإسكندرية بتكلفة مائة جنيه فقط للقميص (ثلث التكلفة المعتادة للتفصيل) ويرسل القميص للزبون في لفافة أنيقة.. الأرباح ثمانية أضعاف.

القرض الممنوح (عدد الأسهم مساو للجنيهات المصرية أي 30 مليونا) والأرباح بعد دفع الأجور والتكاليف، تنتقل ما يساويهما أسهما إلى أصحاب المشروع المصريين في نهاية العام ويعدان سدادا للقرض، حتى يتحول إلى ملكيتهم الخالصة.

هنا نستغل قاعدة الميزة النسبية. الميزة النسبية في مصر، المادة الخام، وهي القطن المصري الذي لا مثيل له، والأجور عشرة في المائة من مثيلتها، وفي أوروبا - بريطانيا وجود المستهلك الذي يتلهف على السلعة، ومنفذ البيع، والتكنولوجيا.

الأمر الأكثر أهمية، هي تعليم الرجل صيد السمك لضمان إطعامه بقية حياته..

الهدف إعادة تأهيل القوى العاملة المصرية والعقليات المصرية للتعامل مع الاقتصاد والسوق الملائمة للطبيعة البشرية والعالم المعاصر.. فإدارة الدولة الستالينية للأمور المالية التي بدأت بكارثة تأميم كل شيء في الستينات (حتى المحلات الاستهلاكية العادية كصيدناوي وهانو، وشيكوريل وعمر أفندي أممت) دمرت الاقتصاد المصري وأدخلت في الثقافة اللغوية الاجتماعية مفردات كطابور الجمعية التعاونية ليقف الناس بالساعات في انتظار دواجن وأسماك مجمدة جاءت إعانة من الاتحاد السوفياتي لسد «جوع الشعب»، والاعتماد على دعم السلع والرغيف والبطالة المقنعة في شكل توظيف الدولة للخريجين بدلا من مبادرات الاستثمار الذاتي (تعليم الرجل صيد السمك).

هذه النموذج - ورشة القمصان - يخلق فرص عمل لثلاثين في الورشة، أو مائة لو عملوا 24 ساعة في ورديات – ووظائف مكملة، مثل سائقي شاحنات وعمال صيانة ونقل، ووظائف غير مباشرة من مراسلين، ثم في المنطقة حيث يرتاد العمال المقاهي والمطاعم، ويدفعون الضرائب للخزانة من الأجور.

ماذا لو استخدمت تبرعات الاقتصاد المصري لدعم البنوك - بفارق سعر الفائدة المخفض، لإقراض أصحاب المشاريع الصغيرة لتأسيس عشرات الآلاف من النماذج كورشة تفصيل القمصان؟

هذا يتطلب من البرلمان المنتظر انتخابه في الخريف إصدار قوانين لتسهيل الاستثمار وتحفيز البنوك على الإقراض (إعفاء ضريبي لإقراض المشاريع الصغيرة وضرائب باهظة عكسية، أي عند إمساك المصرف يديه عن الإقراض) وتحفيز المستثمرين على مشاريع الأعمال الصغيرة بدلا من انتظار الوظيفة الحكومية.

وحتى نرى ثمار القوانين البرلمانية، يأتي دور المليونين - اللاعب الاحتياطي - لأنه بلا تغيير الثقافة السياسية للاقتصاد، من النموذج الاشتراكي السوفياتي إلى نموذج تعليم الرجل صيد السمك.. سنحتاج المليونين لإنقاذ ما بقي من الورشة من الغرق في مياه عميقة بلا قرار اسمها اقتصاد بيروقراطية الدولة الستالينية الذي انقرض من العالم ما عدا مصر..