داعش.. حشاشون بلا قلاع

TT

ربما كان انفجار تنظيم داعش المفاجئ بالعراق أكبر حدث أصولي في المرحلة الماضية بعد زوال حكم الإخوان بمصر. يتمتّع هذا التنظيم بالتماسك، ووفرة المال، وقوة البأس، حتى أعادتْنا قوتهم الضاربة إلى قلعة الحشاشين في القرن الحادي عشر «آلموت». الشخصيات التي تنفّذ وتدير في داعش نسخة مكبّرة من صيغ حراك شخصيات الحشاشين. تختلف المنابع بين الحشاشين الإسماعيليين الداعين إلى إمامة نزار بن المستنصر بالله، ومن جاء من نسله وأسسها الحسن بن الصباح، وبين داعش التنظيم الذي يسعى إلى إقامة الدولة الإسلامية النقية التي «لا تشوبها شائبة العصر ولوثة الغرب وانحراف الأمم»، تنفّذ الحدود، وتجري المحاكمات ويُهلك الحرث والنسل من دون هوادة، والجامع بينهما تلك الحالة الدموية التي تحرّكهما، والتدريب الفدائي والرغبة بالموت وسفك الدماء.

في سياق التدريب الدموي كتب المؤرخ الألماني أرنولد أوف لوبيك عن الحشاشين باستغراب: «إن إيماءة منه - الأكبر - كافية لأن تجعل الكثيرين منهم يقفزون من فوق الأسوار المرتفعة فتدقّ أعناقهم وتتحطم جماجمهم ويموتون ميتة بائسة، وهو يؤكد لهم أن أسعدهم مآلا هم الذين يسفكون دماء الآخرين، ويلقون حتفهم بالتالي انتقاما لفعلتهم».

هذه الفرقة (Assassin) تطوّر اسمها ومفهومها ليشمل الاغتيال الغامض، والسجال يطول حول سبب التسمية على ما يسرد المؤرخ برنارد لويس في الفصل الأول من كتابه: «الحشاشون - فرقة ثورية في تاريخ الإسلام». غير أن ما تأسس داخل تلك القلعة كان تاريخيا ومؤثرا على الجماعات الإجرامية ليس في الشرق الأوسط فقط، بل امتدّت تلك التعاليم الدموية إلى أوروبا، وقيل إن خمسة عشر شخصا من الحشاشين حاولوا قتل ريتشارد قلب الأسد في معسكره عام 1195 في «شينون»، وأصبح التحالف بين بعض الغربيين وشيخ الجبل بغية تنفيذ الاغتيالات المنظّمة قائما كما يؤكد بعض المؤرخين، وهو الأمر الذي ينفيه برنارد لويس نفيا قاطعا.

بلدغة خاطفة، نفّذت في العاشر من يونيو (حزيران) 2014، استطاع تنظيم داعش أن يحتل مدينة الموصل، وأن يستولي على كل مفاصل المدينة الأثرية، ومبنى المحافظة والمطارين المدني والعسكري، واستولى على أموال المصارف وكل ممتلكات الدوائر الرسمية. هذه الصورة شبيهة بمئات الصور الحربية التي أدارها الحشاشون ضد الفرس والأتراك بالمعارك الطاحنة التي لم تتوقف، نعثر على هذه الصور في رواية «آلموت» لفلاديمير بارتول، من خلال شخصيات حربية مقاتلة مثل «ابن طاهر» و«سليمان» و«عبد الملك» و«عبيدة» وهو ما نقرأه في الفصول: السابع، والثامن، والتاسع من الرواية الضخمة التاريخية.

ثمة صيغ وخطوط تجمع بين الأصوليات بمختلف ألوانها وتشظياتها وتنوع أهدافها، بين الإخوان المسلمين والقاعدة وداعش الكثير من المشتركات التي تجمعهم بتنظيم قوي ودولة مغلقة عاصمتها قلعة «آلموت» مثل «الحشاشين». صيغ الدم والاحتلال والمباغتة والقتل، وثقافة الدماء والأشلاء، كلها إرث ممتد من الوحشية التي يرى البعض أنها هي «أصالة الإنسان الأول» قبل أن يقلّم أظفاره ويتهذّب، وامتداد فكري للتنظيمات «الانشقاقية» التي تركز على مبادئ الانفصال والتحرك بالفراغات والاقتيات على الأزمات، هذه مشتركات تجمع بين شتى الأصوليات إسماعيلية كانت أو شيعية أو سنية، الأصولية الإسلامية تجمعها خطوط كبرى على مستوى الآيديولوجيا والدوغمائية في التفكير والمبادرة الدموية في التنفيذ، لهذا أصبح استحضار حالة «الحشاشين» معتادا في الدراسات التي تتعلق بالإرهاب والخلايا القتالية العنيفة.

الملاحظ أن القادة لا يكونون بالضرورة داخل المشروع الدموي تنفيذا واقتناعا! وبوحي من رواية «آلموت» فإن ابن الصبّاح قائد فرق الموت كان منعزلا بقصره ضمن ملذاته، على وقع شعر زميل دراسته عمر الخيام وتشرف على شؤونه ومتعه «مريم». صنع على عينه «جنّة» كما يذكر المؤرخ ماروكو بولو وقد وصفها بـ: «أجمل حديقة يمكن أن تقع عليها عين، ملأها بمقصوراتٍ من أروع ما يمكن، وأقام على خدمة الحديقة فاتناتٍ من أجمل نساء العالم، يجدن العزف على مختلف آلات العزف، يغنين بأصواتٍ رخيمة، ويؤدين رقصاتٍ تخلب الألباب»، وهذه حال المحرّض، الذي يكوّن خلية لاقتحام الموت، بينما هو يسبح بملذات الحياة، وهذا ليس لغزا بل تجدونه بدعاة الموت الذين يغرقون الأبناء بالدم، وعائلاتهم تتعثر بكثبان المسك.

كانت ضربة قوية ضربتها بغتة حالة «داعش» لأن إهمال الأصولية يعني تكاثرها تلقائيا، وكان لتعقيدات الحدث السوري، والتخلي الغربي عن المنطقة، والتجاوز الدولي للمشكلات الراهنة أكبر الأثر في تفريخ تلك الخلايا وإعادة إنتاج أتباعها، بين قلعة «آلموت» وساحة «الموصل» عشرة قرون من دون أي تغيير يذكر بالبنية الأصولية الدموية، هذا هو المخيف، ثم نتحدث وبجرأة عن «إرهابٍ طارئ» أو «ثقافة دخيلة» هذه هي داعش إنها فرقة من الحشاشين، لكنها على الأرض والسواحل والجبال، إنهم حشاشون جدد لكن.. بلا قلاع.

* كاتب وباحث سعودي