الإقصائيون المزمنون

TT

قبل العودة إلى حوار التوافق الوطني في البحرين في نسخته الثالثة، بدا الإقصائيون في ممارسة لعبتهم المفضلة، وتكرار شعاراتهم المعلومة: «نحن أو أنتم!! نحن فقط في مواجهة الحكم، أما أنتم فلا وجود لكم، وجودكم كعدمه، لأنه لا يغير من حجم المعادلة في شيء».

هذا ما يقوله الخطاب الرسمي لبعض المعارضة، وهذا تقريبا ما يقوله بعض «الخارج» ممن هواهم «مع أطروحات المعارضة»، أو ممن تبنوا ورعوا خطابها الذي لا ترى من خلاله في الساحة إلا نفسها، أو ترى أنها الوحيدة الجديرة بحمل ملف الإصلاح والديمقراطية والتحدث باسم الشعب، من خلال 4 شعارات مركزية:

- أن يكون الحوار مقصورا على المعارضة والحكم.

- أن يكون الحوار على نمط «المعالجة السياسية» وليس استنادا إلى حوار توافقي وحلول توافقية، ما دام التوافق سوف يحرم المعارضة من تمرير مطالبها كاملة ويجبرها على تقديم تنازلات.

- أن يكون العامل الخارجي حاضرا (شاهدا وضامنا)، بما يعني دمج العامل الخارجي في المعادلة الوطنية.

- أن يتم عرض «الصفقة» على نوع من الاستفتاء لمنحها «شرعية» جديدة تمحو الشرعية القائمة والثوابت التي حددها الدستور والميثاق.

مشكلة هؤلاء أنهم قرروا أنهم الركن الصعب في المعادلة (المعارضة + السلطة)، بما يعني تقريبا أن تجمع الوحدة الوطنية ومن معه من جمعيات وجماعات لا يعبر إلا عن وجهة نظر السلطة، وفقا للمعادلة التي ترسمها المعارضة وفي مقدمتها الوفاق، وهو أمر غير صحيح جملة وتفصيلا، وإنما يتم تسويق مثل هذا التوصيف لفتح الطريق للمعادلة إياها، والتي تم التعبير عنها مجددا في أحاديث بعض أقطاب المعارضة أخيرا: السلطة في مواجهة المعارضة لا غير.. (هكذا!!). وهذه المعادلة التي عبرت عنها التصريحات الرسمية لبعض المعارضة تبدو في منتهى الإقصائية وسوء الفهم أو سوء التقدير أو سوء المقصد، وتحمل في طياتها مغالطة مركبة من عدة عناصر، منها على وجه الخصوص:

- أن السلطة كانت دائما فوق الجميع ولا تعبر آيديولوجيا وعمليا عن أي طرف سياسي - اجتماعي، فهي ليست سلطة طائفة أو حزب، وبالتالي فإنها تقف مبدئيا على المسافة نفسها من جميع الأحزاب – الجمعيات السياسية، حتى وإن كان لهذه الجمعيات أو معظمها توصيف طائفي فهذا لا ينسحب على السلطة كما تقدم نفسها أو كما تتعامل مع الحراك السياسي والاجتماعي منذ عشرات السنين، فهي سلطة مدنية تخدم وترعى جميع المواطنين بوصفهم مواطنين وليس بوصفهم أفرادا في طوائف أو جماعات، وقد كان ذلك صمام أمان سياسي على مدار السنين.

- اعتبار الأحزاب المصنفة «غير معارضة» طرفا تابعا للسلطة، وهذا أمر غير صحيح سياسيا وواقعيا، فهنالك دوما درجات من الاتفاق والخلاف مع السلطة حول العديد من القضايا التي تتراوح بين المساندة في القضايا الوطنية التي يفترض أن الجميع يجمعون ويجتمعون حولها، مثل الحفاظ على استقلال البلاد ووحدتها الوطنية وأمنها ورفض التدخل الأجنبي في شؤونها، وبين المطالب المعيشية للمواطنين وهي مطالب مشتركة بين جميع فئات المجتمع بكل طوائفهم وطبقاتهم الاجتماعية، وبين الاختلاف مع السلطة في بعض القضايا والملفات المختلفة، وقد عكس الحراك البرلماني خلال السنوات التسع الماضية جانبا من ذلك.

- أن الفرق بين أحزاب المعارضة وسائر الأحزاب الأخرى هو أن المعارضة (أغلب جمعياتها على الأقل) تذهب في مطالبها إلى حد المس بالثوابت التي أجمع عليها الناس في هذا البلد منذ 2001 في أكبر استفتاء في التاريخ المعاصر للبحرين، بما في ذلك المطالبة بتقويض أسس الدولة، حتى وإن تطلب الأمر استخدام الضغط الخارجي المستمر على السلطة لتسلم بما تطالب هذه المعارضة. أما الأحزاب الأخرى المصنفة كأحزاب للموالاة، فإن نعتها أو وصمها «بالموالاة» متأت من أنها التزمت بما ألزمها به ميثاق العمل الوطني في الحقيقة، وملتزمة بالثوابت التي تتعلق بأسس الحكم وشرعيته وبالدستور وآلية التعامل معه، وغيرها من الجوانب التي لا يعني الالتزام بها مطلقا أن هذه الجمعيات ليس لها رؤيتها السياسية خصوصا الخاصة بها، بما في ذلك المنوال التنموي الذي تطالب به، فضلا عن رؤاها المختلفة للإصلاح السياسي والتقدم نحو غد أفضل.

وحتى لو قبلنا جدلا بالمعادلة المغلوطة التي يحاول خطاب المعارضة تمريرها، واعتبرنا التجمع الوطني والجمعيات الأخرى المتحالفة معه جمعيات للموالاة، فإن وجود هذا التجمع وهذه الجمعيات المهمة على طاولة الحوار كان أمرا حتميا وضروريا، حيث لا يمكن للحوار أن يمر دونها أيا كان توصيف هذا التجمع والجمعيات التي تدعمه وترتبط به. إن هذه الإقصائية تمارس اليوم - على الرغم من نعومة الخطاب الإعلامي المطروح في بعض الأحيان. وهي نوع من العنف السياسي، انطلاقا من أسس آيديولوجية تضع أمام حوار التوافق عوائق حتى قبل عودته مجددا إلى سكة التوافق، فما بالك بتحقيق نتائج إيجابية من ورائه؟

وهذا الإقصاء - إن استمر - فسيكون عنوان رغبة في إفشال أي توجه حقيقي للوصول إلى توافق وطني شامل، تأكيدا على عجز مزمن على التعايش مع الآخرين، على الرغم من الإقرار بالتعددية وقيم ومبادئ العيش المشترك.

* كاتب وإعلامي من البحرين