أي عراق تريده أميركا؟

TT

يأمل وزير الخارجية الأميركية جون كيري تطبيق خطة إعادة قوات الصحوات للقتال ضد تنظيم داعش الإرهابي، خاصة مع استحالة الوجود العسكري الأميركي ميدانيا. وهذا المقصد منطقي بالنظر للنجاحات التي حققتها الصحوات ضد تنظيم القاعدة في 2007.

خيار الصحوات مشجع كذلك، كون مناطق السنة الأسهل في الاستيلاء عليها، لأنها بعيدة عن مقار الحكومة المركزية المؤمنة في الوسط، وعن الجنوب بميليشياته الشيعية. كما أن واشنطن منذ تعاونها مع القائد السني عبد الستار أبو ريشة في الأنبار في 2006 لقتال تنظيم القاعدة وطرد عناصره من المناطق السنية المتمركزين فيها، وناشدته إبداء مسؤوليته الأدبية في النأي عن ارتباط «القاعدة» مذهبيا به، فكان الرجل بالقوة والشجاعة والإرادة المتوقعة، وقام بتشكيل مجلس عسكري دحر التنظيم الإرهابي وشتت شمله. وعلى هذا الوتر لا تزال واشنطن تحرك أصابعها؛ تبحث في السنة عن عبد الستار أبو ريشة آخر لمحاربة «داعش».

خطة أميركا معقولة، إنما تشوبها شائبة واحدة، وهي أن كثيرا من مقاتلي الصحوات هم الآن من الثوار، الذين يقاتلون جنبا إلى جنب مع «داعش»، مدفوعين بشعور عميق بالاضطهاد والرغبة في استعادة حقوقهم بالقوة، بعد أن غدرت بهم السياسة. هذا يعني بالضرورة إقناع الثوار بإعادة ترتيب أولوياتهم لتكون محاربة الإرهاب أولا، ثم تأتي وعود العدالة والحقوق ثانيا، كما حصل في 2006، إنما في وجود نوري المالكي الأمر شبه مستحيل، وعلى السنّة أن يحذروا من أن يلدغوا من جحر المالكي مرتين.

لا يوجد ما يدعو الثوار السنة إلى التراجع أو التفكير بتوجيه جهودهم نحو «داعش»، خاصة أن هذه مهمة الدولة التي يفترض أنها اليوم تملك جيشا قويا، بعد ثماني سنوات من أول انتخابات أعقبت سقوط نظام صدام حسين، وهي التي حلت قوات الصحوات ودعتهم للانضمام للجيش، ثم ثبت أن نوري المالكي يريده جيشا طائفيا، لذا استبعد السنة من الرتب العليا ليضمن احتكار السلطة بيده. لا ثقة بين الثوار والقيادة السياسية، حتى إنهم لا يثقون بالشخصيات السنية ذات المواقع السياسية المهمة، كأسامة النجيفي وصالح المطلك، لأنهم يعلمون أن المالكي جردهم من نفوذهم. نوري المالكي، الذي ورط كل المنطقة في هذه الأزمة الأمنية متشبثا بالسلطة، رافضا حتى تشكيل حكومة توافق وطني، لأنه يرى أن في ذلك ضربا للديمقراطية! لعله يعني ديمقراطية شبيهة بتلك التي في لبنان، حين أبقت على الرئيس اللبناني الأسبق إيميل لحود بأمر بشار الأسد، رغم أن لبنان كان ينهار من حوله، وكان من تداعيات ذلك تأزيم لبنان حتى هذه اللحظة داخل فراغ سياسي يهدد قواعد الدولة.

الحل السياسي الذي يتطلع الجميع إليه في العراق لا قيمة له بوجود المالكي، وعلامات التوبة التي يظهرها عن أخطائه السياسية الفادحة لن تكون مرضية؛ فهو رجل إيران في العراق، وهذه الحقيقة تنسحب على كل أعضاء ائتلاف دولة القانون، الذي يرى في الدعم الإيراني أساسا لاستمرار مكاسبه السياسية. المالكي في نظر السنة هو الرجل الذي يقود البلاد بمنطق معركة الحسين ومعاوية، كما ذكر ذلك صراحة، فقد حارب المالكي حتى المدنيين والمسالمين منهم، وهم الأغلبية، بضعف الخدمات والتنمية في مناطقهم، وسجنهم، وقهرهم، وابتزازهم في أعراضهم، وتهميشهم سياسيا.

مفاجأة سقوط الموصل قبل أسبوعين وما تلاها من انهيارات في قوى جيش المالكي طرحت جملة من الاستفهامات، أهمها: إلى أين ذهبت مليارات الدولارات التي صرفت على الجيش لإعادة تكوينه بعد أن فككه الاحتلال الأميركي؟ هناك فئتان في جيش المالكي الذي يتشكل من مكون شيعي رئيس موالٍ له؛ الأولى المدربة ذات الخبرة، وهؤلاء إما في سوريا يقاتلون إلى جوار بشار الأسد، أو هم النخبة العسكرية وأتباعها التي دبّ فيها الفساد مع وفرة المال وغياب الرقابة.

الفئة الثانية من الجيش لم يحظوا بالتدريب الميداني الكافي وغير مجهزين ولا مؤهلين للقتال، هؤلاء هم من أفزعتهم «داعش» في الموصل، وتولوا هربا، فاضطر محافظ المدينة إلى الاستنجاد بالبيشمركة الكردية.

هذا الحديث يقودنا إلى الأزمة التي وجدت إيران وحلفاؤها نفسها فيها؛ ميليشيا «حزب الله» اللبناني، وعصائب الحق، ولواء أبو الفضل العباس، وفصيل من الحرس الثوري الإيراني برعاية القائد العسكري الإيراني قاسم سليماني، مجندين منذ أكثر من عامين إلى جانب بشار الأسد بكامل طاقتهم التشغيلية، حتى إن «حزب الله» اللبناني تلقى ضربات في ضاحيته الجنوبية خلال عام واحد عدة مرات، بلا حول له ولا قوة، وهي التي كانت معقلا يستعصي على الاختراق، دليل ارتخاء قبضته الأمنية.

إن أرادت واشنطن أن تنهض من عثرتها في العراق، فعليها أن تحدد أي عراق تريد؟ العراق بديمقراطية مكتوبة في الدستور، أم ممارسة في الحياة العامة؟ جون كيري زار العراق، واجتمع مع المالكي، في وقت كانت طائرات بشار الأسد تقصف مواقع لـ«داعش» على الأراضي العراقية دفاعا عنه، فكيف إذن تدعو واشنطن لرحيل الأسد وتتمسك بالمالكي؟

رحيل المالكي مطلب ملح، ليس فقط لأنه فشل في إدارة العراق، بل لأنه أضحى رمزا للطائفية. بوجوده لن يستقر العراق. وحتى لو جاءت إيران بغيره، سيكون الدرس قد اتضح، أما بقاؤه فسيظل مستفزا لغضب الثوار السنة أصحاب الحق، ووقودا لمزيد من العنف.