بط وإوز وعروسة

TT

لاحظت في الفترة الأخيرة، استهلاكا في بيتنا للبط والإوز غير عادي. والدمياطي بوجه عام طعامه الرئيس السمك والأرز، ويأكل البط في بعض المواسم. أما الإوز فلا يقدم إلا في ليالي الإنشاد الديني أو المناسبات المشابهة.. لاحظت أيضا وجود فتاة صغيرة شابة بشكل شبه دائم في بيتنا وكأنها جعلت منه منفذا للبيع، ثم عرفت أنها ابنة السيدة تاجرة البط والإوز، أثار الأمر ريبتي وأحسست على نحو غامض أن هناك مؤامرة ما تحاك خيوطها حولي، فما هي الحكاية يا أمي؟ هل أنا أعمل في هذه المهنة الشاقة لكي يتحول مرتبي إلى بط وإوز؟ وما هي حكاية هذه الفتاة التي تكاد تكون مقيمة عندنا؟

قالت أمي: ما رأيك فيها؟.. ألا تفكر في الزواج، ماذا ينقصك لتتزوج؟ أنت الآن شاب وحاصل على الشهادة الابتدائية، وتعمل في وظيفة محترمة، هذا هو بالضبط الوقت الذي يجب أن تفكر فيه في الزواج.. لقد اخترت لك هذه الفتاة.. بذمتك أليست جميلة؟

آه.. بدأت الآن معالم الحكاية في الاتضاح، أقنعت أمي أم الفتاة بأنها قد اختارت ابنتها زوجة لي، فانهالت عليها حماة المستقبل بطا وإوزا. وهنا قلت لأمي بحسم، لا بط ولا إوز بعد اليوم، وحرام عليكِ أن تعطي أملا كاذبا لهذه الفتاة.. لقد شرحت لك من قبل، أنا في الأوتوبيس لفترة مؤقتة وأنني سأعود للدراسة في شهر أكتوبر (تشرين الأول) المقبل.

مهما كانت الإغراءات فعلي أن أواصل مقاومتها، عدد كبير من زملائي تزوجوا بمجرد التحاقهم بالعمل، بينما كنت أرى أن بقائي في هذه الوظيفة فيه القضاء علي.. أنا أعمل كمساريا غير أني شيء آخر، حقيقة أنا لا أعرف بالضبط ماذا أكون أو ماذا أريد بالضبط أن أكون، غير أنني كنت أحلم بالكتابة، بل وأذكر أن فكرة الكتابة عن مرحلة الأوتوبيس لم تغادرني طول الوقت وها هي تتحقق بعد مرور أربعة وستين عاما. ولكن هل وجود هذه المرحلة في سيرتي الذاتية كان عنصرا مساعدا في شق طريقي في الحياة أم كان عنصرا محبطا؟

يقول إريك هوفر رئيس قسم الأبحاث السابق في جامعة بركلي، إن الثقافة الاشتراكية تحتقر العمل والعمال، وأنا أشهد على صحة هذه المقولة؛ فالمثقف الاشتراكي الذي يتغنى كل لحظة بالعمل والعمال، في واقع الأمر وفي أعمق أعماقه يحتقر العمل والعمال. اثنان فقط من المثقفين المصريين عملا كمسارية، كاتب هذه السطور والمرحوم الدكتور عبد العظيم رمضان المؤرخ والأستاذ الجامعي، فعندما تناقض مع بعض الناصريين، صاحوا جميعا في وقت واحد: هو مين الكمساري ده اللي حا يعلمنا؟

أحد أصدقائي قال لي: ده كان كمساري..

فرددت عليه: ما هو أنا كمان كنت كمساري..

فقال: أنت كنت كمساري وأنت طالب.

كما لو أن الطالب صغير السن عاجز عن تقدير الأمور، لذلك هو غير مسؤول عن التحاقه بهذه الوظيفة «الحقيرة». ومنذ عدة أعوام، قرر أحد مقدمي البرامج أن يهجم علي مستخدما هذا المدخل، غير أنه فوجئ عندما قلت له: أنت تحدثني عن أجمل فترات حياتي.. عندما كنت أحلم وأدافع عن حلمي، أما الآن فقد تحققت ككاتب ولم أعد أحلم بشيء. أسوأ مراحل العمر هي تلك التي نعجز فيها عن الحلم بشيء جديد ومختلف.