الجيش والوطن

TT

اعتدنا بعد مرحلة الانقلابات العسكرية وما تلاها من الحكم العسكري والنكسات الحربية.. اعتدنا على النظر إلى ضباط الجيش نظرة غير لائقة؛ نسبنا إليهم فشلنا وتدهورنا ووصفناهم الطغيان. راح الظرفاء يتندرون عليهم، قالوا إن رجلا ركب الأوتوبيس المزدحم بالركاب وداس بقدمه عفويا على قدم رجل آخر، تحمل الرجل الألم بصبر وجلد حتى تجاوز الحد، فالتفت إليه وقال: حضرتك ضابط في الجيش؟ أجابه: لا. عاد فسأله: أبوك ضابط في الجيش؟ قال: لا. فسأله: حضرتك متزوج بنت ضابط في الجيش؟ قال: لا. الحقيقة ما عندناش أي ضابط في أسرتي. فسدد إليه الرجل لكمة موجعة، وسبّه ثم قال: «أمّال بتدوس على رجل الناس كده ليه؟».

ملّ الناس منهم، فانتهى حكمهم في الأخير وتسلم المدنيون والمثقفون مقاليد الحكم، وإذا بحكمهم يتضح أكثر فشلا، وفسادا، وتخلفا، وعنجهية من العساكر. عبرت عن سخطها منهم جماهير مصر فخرجت بمظاهرات مليونية ضد حكم الإخوان، وعندئذ خرج جيش مصر بقيادة عبد الفتاح السيسي ليساند الإرادة الشعبية وأسقطوهم من الحكم.

ما قام به السيسي يذكرنا بما قام به كثير من الضباط، من كرومويل في بريطانيا إلى نابليون وأتاتورك، شعروا بتدهور أحوال بلادهم فهبوا لإنقاذها. علينا أن نتذكر أن ضباط اليونكرز، وعلى رأسهم رومل حاولوا إنقاذ ألمانيا من الحكم النازي بقتل هتلر، ولكنه نجا من المحاولة فنكل بهم، وهناك في ألمانيا كان الحزب النازي على طرف وضباط اليونكرز على طرف آخر ينأون بأنفسهم عن النازيين.

قد يختلف المدنيون عموما عن الضباط، وكثيرا ما يكرهون تسلطهم وتفكيرهم العسكري. بيد أنني أخذت ألاحظ هذه الحقيقة، وهي أن العساكر قضوا حياتهم وفي رأسهم وتدريبهم وثقافتهم فكرة واحدة؛ هي حماية الوطن، هذا واجبهم الأول والأخير، المثقفون يعيشون بتعددية في التفكير، كثيرا ما يعطون آيديولوجيتهم وفلسفتهم أسبقية على المشاعر الوطنية، وما تحتاجه أو لا تحتاجه البلاد والأمة. تطبيق فكر معين لديهم أهم من حماية الوطن ورفاهية الشعب.

فضلا عن ذلك، كثيرا ما نجد أن العسكريين أكثر ثقافة وعلما من المثقفين والمدنيين بما يمس الوطن بصورة مباشرة، فلا تقتصر دروسهم في الكليات العسكرية والحربية على الأمور العسكرية، بل تتعداها إلى تاريخ وطنهم واقتصاداته وتراثه، فالوطنية لا تعني الأرض فقط، بل تشمل التاريخ والتراث وكل ما يتصل بحياة الشعب، ومعظم القادة العسكريين في دولنا درسوا وعملوا في الخارج؛ فمنهم من قضى سنوات في كليات الحرب بأميركا وغيرها، أو كان ملحقا عسكريا في دول عربية أو أجنبية، فيعطيهم ذلك نظرة شمولية لمشكلات العالم والعلاقات الدولية وآخر مستجدات العلوم والتكنولوجيا. وقائد الجيش يدرك أن جنوده يتكونون من شتى الطوائف والقوميات، وهذا يفرض عليه تجاوز الروح الطائفية والتمسك بوحدة الشعب والوطن وحرية العقيدة.