فلسطين وإسرائيل.. حكاية التنسيق الأمني

TT

مع كل انفجار.. ومهما كان حجمه في سياق العلاقات الفلسطينية - الإسرائيلية، يظهر مصطلح التنسيق الأمني، ويتصدر الجدل حوله المشهد السياسي، ويصبح عند الفلسطينيين قضية متحركة، تستعملها القوى السياسية، كما تستعمل أي قضية أخرى تثير الشارع، وتؤثر في عواطف الجمهور.

التنسيق الأمني.. ولد مع أول يوم للمفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية السرية، التي انعقدت في أوسلو، ورغم كل الهزات والانفجارات التي حدثت بين الجانبين في مسيرة التسوية الصعبة - إن لم أقل المستحيلة، فإن هذا المصطلح ظل على قيد الحياة أو الموت السريري من دون إعلان، نظرا لحاجة الطرفين له، مضافا إلى ذلك فهم واشنطن مغزى التنسيق الأمني، ورعايتها إياه.. ليس سياسيا فحسب، وإنما ميدانيا وعملياتيا، إذ بدا في كل أحقاب التدخل الأميركي في الأزمات الفلسطينية - الإسرائيلية، أنه الحبل السُري الذي يصل طرفي النزاع، وفي أيامنا هذه يتعزز كآخر مقوم من مقومات العملية السياسية المتعثرة بين الجانبين. غير أن التنسيق الأمني ومنذ بدايته، تعرض لمحظور القراءات والتفسيرات المختلفة والمتعارضة، فإسرائيل اعتبرته جوهر العلاقة المستجدة مع منظمة التحرير والسلطة الوطنية فيما بعد، وقد فسرته لمفاوضيها الفلسطينيين بتبسيط بليغ حين اختصر الجنرالات مفهومهم له بالعبارة التالية:

«الأمن في إسرائيل وعاء يجب أن يظل ممتلئا بالماء، فإن استطاعت السلطة الوطنية جعله ممتلئا دوما، فهذا أمر جيد بل هو المطلوب، أما إذا ملأت نصفه فإن إسرائيل ستتولى ملء الوعاء بقواها الذاتية وبطرقها الخاصة.

وفي لقاءات، وأحيانا في مطالبات رسمية وأدبيات ومقالات، استخدم مصطلح التنسيق الأمني، بحيث يلقي على الطرف الفلسطيني مسؤولية إنهاء أي تهديد للأمن الإسرائيلي، والبعض استخدم مصطلحا مغاليا حين قال.. نريد حين تسقط إبرة في رام الله أن يُسمع رنينها في تل أبيب!!

أما السلطة الفلسطينية التي حافظت على التنسيق الأمني كشرط جوهري لاستمرار العملية السياسية، وكشرط أساسي لرضا الولايات المتحدة عنها وعن أدائها، فكان تفسيرها يرتكز على مقولة لم يحالفها الحظ في التطبيق على أرض الواقع، وهي أن التنسيق الأمني ينبغي أن يرتبط بمستوى التقدم على المسار السياسي، إلا أن التطورات العاصفة التي حدثت في حقبة العلاقة الفلسطينية - الإسرائيلية المباشرة، أدت إلى عزل التنسيق الأمني عن المسار السياسي، بحيث غدا مستقلا، ويمارس سواء كان هنالك مسار سياسي يعمل أو لم يكن هنالك شيء من هذا على الإطلاق.

على نحو سريري.. مات التنسيق الأمني، في سياق أحداث الانتفاضة الثانية العاتية، وتحول إلى عكسه تماما حين ثبت لإسرائيل أن معظم العمليات المسلحة التي كان يقوم بها الفلسطينيون، أما أنها تمت بمشاركة مباشرة من أجهزة الأمن، أو أنها مدعومة ومباركة في السر أحيانا، وفي العلن أحيانا أخرى من القيادة السياسية الشريكة في عملية السلام، وعلى رأسها ياسر عرفات.

وفي حرب شاملة وتفصيلية، شنتها إسرائيل على الانتفاضة وقضي فيها على الرئيس ياسر عرفات، إضافة إلى قتل الكثير من قيادات الصف الأول في الحالة الفلسطينية - هدأت الانتفاضة، وطغت اللغة السياسية على لغة الانفجارات وهتافات الجنازات، ووقع الانشقاق الفلسطيني الذي جسد النهاية المأساوية لحقبة أساسية من أحقاب النضال الوطني، ليدخل الجميع في دوامة من نوع جديد، ما زال الفلسطينيون يعانونها، رغم كل المهدئات التي حملت عناوين وأوصاف متعددة، ومنها المهدئ الأخير، أي إعلان إنهاء الانقسام إعلاميا واستمراره سياسيا وميدانيا.

ولقد واجه الرئيس الفلسطيني عاصفة عاتية جراء إعلانه استمرار التنسيق الأمني، ووصفه إياه بالالتزام المقدس، وقد دفع الرجل من شعبيته ثمنا باهظا، لأنه تجنب مخاطبة العاطفة الفلسطينية المتأججة ضد إسرائيل واعتداءاتها واستباحتها الفلسطينيين بطريقة مهينة، وخاطب الأميركيين والإسرائيليين وفق اجتهاد أنه بذلك يخفف الضغط على الفلسطينيين، ويتجاوز مأزقا جديدا قد يعيد الأمور إلى أصعب مما كانت عليه زمن الانتفاضة المسلحة.

ورغم كل ما حدث.. وهو كثير وكبير، فإن التنسيق الأمني سوف يظل على قيد الحياة والتداول إلى أجل غير مسمى، فهو على نحو ما يشبه اتفاقات وتفاهمات أوسلو، التي وإن ظهرت مؤشرات قوية على موتها سريريا كل يوم.. إلا أنها تعيش بفعل عدم جرأة أي طرف على إعلان نهايتها.

أخيرا.. ولأن أميركا تعتبر التنسيق الأمني الحبل السري الذي يربط الطرفين المتقاتلين حاليا.. عليها أن تعمل بجهد أكبر وبإخلاص أكثر لربط التنسيق الأمني بمسار سياسي فعال وذي مصداقية، بذلك تنقذ الوضع كله من الانهيار وتضع قطارا جديدا على سكة صلبة...

فهل بوسعها فعل ذلك بعد السؤال: هل من مصلحتها التفكير جديا في ذلك؟