مشهد الجنرال الأخير!

TT

أكثر من أربعين يوما مضت ولبنان بلا رئيس جمهورية والسبب الأهم في هذا الأمر هو إصرار الجنرال الأسبق ميشال عون على أن يكون هو وحده خيار الأغلبية لرئاسة الجمهورية أو سيعطل اختيار غيره، ويبدو أنه فهم جيدا الرسالة التي وصلته أن هناك بعض القوى غير الراضية أبدا عن ترشيحه لمنصب الرئاسة وأنها لن تقوم بهذا الدعم له على الإطلاق.

ولقد حاول عون في الفترة الأخيرة التودد بشكل غير مسبوق لقيادات تيار المستقبل وعلى رأسهم سعد الحريري والتقاه في باريس وأمر آلته الإعلامية التلفزيونية بالكف عن التعرض لهم ومهاجمتهم كما كانت الأمور دوما. ميشال عون حاول جاهدا ولاهثا التقرب إلى تيار المستقبل والرابع عشر من آذار، وحاول طمأنة سعد الحريري بأنه هو كرئيس للجمهورية اللبنانية سيكون الضامن الرئيس لسلامته الشخصية، وكان عون يتحدث بثقة ضامنا تأييد قوى الثامن من آذار بقيادة تنظيم حزب الله الإرهابي الذي قرر اختطاف البرلمان اللبناني وتعطيل النصاب فيه بألا يقدم مرشحا يواجه سمير جعجع مرشح قوى الرابع عشر من آذار.

ميشال عون الجنرال الذي ضحى وباع وتنازل عن كل مواقفه المبادئية التي حارب من أجلها ونفي خارج لبنان بسببها، وكان يجول ويصول في أروقة مجالس الكونغرس وقاعاته ودوائر صناعة القرار في الخارجية الفرنسية والأميركية لفرض قرارات أممية بحق لبنان وسوريا ضد النظام السوري وحزب الله، وكان يخاطب من منفاه الشعب اللبناني بالشعب العظيم في أحاديثه وبياناته الإذاعية الدورية وكان في نظر الغالبية العظمى من اللبنانيين بطلا وطنيا صاحب مبدأ واضح، ولكن فجأة خلع عون كل ما نادى به وانقلب على نفسه وعقد صفقة واضحة الملامح مع تنظيم حزب الله الإرهابي والنظام السوري، كل ذلك فعله لأجل الوصول بأي طريقة لسدة الرئاسة ليصبح رئيسا للبنان وهو الحلم الأهم والأول له الذي من الواضح أنه لأجله مستعد أن يضحي بكل مبادئه ومواقفه السياسية.

عون عجز عن توحيد كافة اللبنانيين في صفه بل إنه عجز حتى عن تلقي دعم كافة أبناء طائفته من المسيحيين عامة ومن الموارنة خاصة، فهم منقسمون جدا، فمنهم من يؤيده لأسبابه ومنهم من يعد أنه ضحى بما قاتل لأجله وأنه إذا فعل ذلك تارة سيفعلها تارات وبالتالي لا يؤمن جانبه ويكون من الصعب جدا الوثوق به في مركز المسؤولية الأعظم وموضع المسؤولية الأكبر.

أساء عون لخصومه إساءات بالغة، وأخطأ في حقهم و«شخصن» المسألة بشكل سوقي ورخيص وضح للجميع أن الرجل به نزعة انتقامية حادة وأنه لن تكون لديه الحكمة ولا سعة الصدر لاستيعاب بلد مليء بالفرق وبالطوائف والمجاميع المختلفة والمتفرقة أساسا وهم جميعا بحاجة ماسة لمن يلم شملهم لا من يزيد حدة التقسيم بينهم.

الجنرال كما يقول عنوان الرواية الشهيرة لساحر الأدب الكولومبي الراحل غابرييل ماركيز: لا يجد من يكاتبه، وصل إلى خريف العمر بعد معارك شديدة وكثيرة كاد أن يدفع فيها حياته، معارك بالسلاح ضد أبناء طائفته وضد الجيش الأسدي المحتل وبعدها معارك كلامية ولفظية مع الجميع بحسب توقيت ونوع المعارك اللازمة وقتها. خريف العمر وصل للجنرال وهو يرى حلم حياته يتبخر من أمامه وكل ما عاش لأجله وناور لأجله وسايس لأجله ضاع، فقرر في المشهد الأخير أن يقدم مبادرة انقلابية شمشونية يسقط بها قصر الهيكل على رأسه وعلى رؤوس أعدائه فينقلب على اتفاق الطائف وعلى الدستور اللبناني وعلى السياسة بأكملها ليعرض الانتخابات بشكل مباشر من قبل الشعب ولكن يبقى طبعا الرئيس مارونيا أي إنها ديمقراطية عونية مفصلة على المقاس، ولم ينل الجنرال في مبادرته الأخيرة سوى الضحك والاستهجان وعدوها أنها النفس الأخير من رئة سياسية محتقنة بالحسرات من جراء مرارة الخسارة.

ميشال عون لقد آن أوان راحتك لتستمتع بوقت فيه الكثير من التأمل على ما مضى وعلى ما كان وعلى ما يجب أن يكون. الجنرال عون في مشهده الأخير جلب الشفقة، كان بإمكانه أن يكون مشهدا مختلفا تماما ولكنه اختار غير ذلك.