وذات سبتمبر غابت وجوههم جميعا

TT

هناك ثلاث رحلات ثابتة إلى المطرية تبدأ في السادسة صباحا، هذا هو ما نسميه «البرنجي» ثم الموعد الثاني وهو «الكنجي» أما الثالث فهو «الشنجي» لست أعرف أصل هذه التسمية، غير أنني لاحظت أنها تطلق أيضا على نوبات الحراسة الثلاث في القوات المسلحة.

أجمل موعد على خط المطرية فهو عندما تكون البرنجي، بعد ساعتين تماما، أي في نحو الثامنة صباحا، تجد نفسك في المطرية دقهلية جالسا على مقهى بلدي جميل على بحيرة المنزلة مباشرة، تتناول سندوتش الفول والطعمية، وهو أخطر وأهم ثابت من ثوابت المصريين، ثم تحتسي الشاي وأنت تستمتع باستنشاق الهواء النظيف القادم من البحيرة. في ذلك الوقت كانت البحيرات، بحيرات بالفعل، كان من المستحيل في ذلك الوقت أن تتصورها وكرا للصوص وقطاع الطرق، كانت ملكا فقط للصيادين وللأسماك والمسافرين من وإلى بورسعيد ودمياط والمنزلة، وعشرات القرى الواقعة على البحيرة، في أرخص وسيلة مواصلات عرفها التاريخ. غير أني أتيت بك إلى هنا لكي أحدثك في أمر آخر، هو الخمسة عشر مليما التي دفعتها ثمنا لأجمل إفطار في الدنيا. الفول والطعمية والشاي الساخن ورطوبة الهواء القادم من البحيرة تغسل صدري، خمسة عشر مليما هي الميزانية اليومية التي حددتها لنفس، ربما أتجاوزها بخمسة مليمات أو حتى قرش صاغ في حالة الضرورة القصوى. لا يجب بحال من الأحوال أن أشعر بأنني موظف ولي مرتب يتيح لي حياة مرفهة. هذا هو بالضبط ما يهددني بالبقاء كمساريا ويحرمني من أي طموح. الموظف له راتب أما التلميذ فله مصروف محدود، هذا هو بالضبط ما أحرص عليه. أن أشعر أن لي مصروفا فقط وهو محدود بالطبع. لو استمتعت بمرتبي مثل الآخرين فسوف يكون من الصعب علي أو لعله من المستحيل أن أترك هذه الشركة. لذلك كنت حريصا على أن أترك لأمي مرتبي كاملا بالإضافة إلى الحوافز مكتفيا بمصروف جيب محدود. لقد نبهني إلى ذلك أنني عندما كنت أقول لزملائي إني سأترك الشركة في نهاية الصيف وأعود إلى مقعد الدراسة، كانوا يبتسمون ولا يعلقون. غير أن محمد أفندي الدالي الذي يعمل مفاجئا بالشركة، كان هو من أثار مخاوفي بشدة عندما قال لي: كلنا قلنا زيك كده.. أنا خارج من تالتة ثانوي (عامان فقط ليحصل على التوجيهية) وكانت ظروف الأسرة وحشة وحتى بعد أن تحسنت عجزت عن الخروج من هذه الساقية.

كنت أشعر باحترام كبير للرجل، وأستطيع أن أصفه بأنه كان من الصفوة المتحضرة، وهي نفس الصفة التي أصف بها محمد أفندي المغربل المفتش. مفتش الأوتوبيس ليس صيادا يرسم خططا للإيقاع بالكمساري، بل هو أيضا يفهم في آليات التفكير عند الراكب النصاب واللص وقد تعرضت لعدد كبير منهم.

وبعد مغادرتي لعالم الأتوبيس، وأثناء كفاحي الطويل للعثور على مكان في عالم الإبداع والحروف، كنت حريصا في كل سبتمبر (أيلول) عند ذهابي إلى رأس البر، أن أمر على محطة الأتوبيس لألقي عليهم بالتحية، وفي كل سبتمبر كانت تغيب وجوه، كانوا جميعا أكبر مني سنا بما يجعلهم أقرب إلى خط النهاية في سباق الدنيا. وذات سبتمبر غابت وجوههم جميعا، ولم أعد أذهب إلى هناك.