العطلة الجميلة وقراءات الصيف

TT

جلبت معي إلى المغرب أربعين أو خمسين مرجعا وأنا عائد من فرنسا. بل وحتى في مطار «أورلي» اخترت على عجل ما لا يقل عن عشرة مراجع إضافية. لحسن الحظ أن مطارات الغرب فيها مكتبات أيضا. هذا بالإضافة إلى المراجع الأخرى التي كانت مشتراة في الأشهر السابقة. بمعنى آخر لا ينقصني شيء لكي أقضي عطلة ممتعة في مغرب الخير والجمال. أقول ذلك وبخاصة أني أستمتع بخضار وفواكه قل نظيرها. فماذا ينقصك أيها الإنسان؟ احمد ربك على السلامة حتى إشعار آخر على الأقل.

أضيف أني أحب الأجواء الرمضانية في المغرب وأجدها من أجمل ما يكون. ولا أبالغ إذا قلت إن إيماني يزداد أضعافا مضاعفة في الشهر الفضيل. وهذا من نعم الله على العبد الفقير. من بين هذه المراجع التي سترافقني طيلة أشهر الصيف المحببة كتاب بعنوان: «عالم الأمس القريب» للكاتب النمساوي الشهير ستيفان زفايغ. عندما ألفه عام 1941 كان قد اتخذ قراره بالانتحار وصمم عليه. وهو انتحار فاجأ معظم المثقفين الألمان الذين ما كانوا يتصورون أن شخصا غنيا مترفا مثله يمكن أن يضع حدا لحياته. عندما سمع توماس مان بالنبأ انفجر بالغضب قائلا: «عيب عليه! لا يحق له أن ينتحر. نحن معذورون إذا ما انتحرنا، لأننا محرومون من لقمة الخبز تقريبا، أما هو؟»..

والواقع أن السؤال يطرح نفسه: هل يعقل أن ينتحر شخص غني لا ينقصه أي شيء؟ لكي نفهم ذلك ينبغي أن نموضع الحدث ضمن سياقه التاريخي. في الواقع أن أوروبا انتحرت مرتين خلال فترة قصيرة كما يقول زفايغ. فالحرب العالمية الأولى انتهت عام 1918 والثانية ابتدأت عام 1939؛ أي لا تفصل بينهما إلا مدة عشرين سنة فقط.. وقد دمرت أوروبا بمدنها وقراها إلى حد كبير. ألا يحق له أن ينتحر هو الآخر أيضا بعد أن شهد انتحار حضارة بأسرها مرتين لا مرة واحدة؟ والسؤال الذي أطرحه بيني وبين نفسي هو التالي: ألا تشبه ظروفنا نحن المثقفين العرب ظروف مثقفي أوروبا آنذاك؟ إلى حد كبير في رأيي مع فارق واحد هو أن مشكلتنا دينية بالدرجة الأولى لا قومية. وبالتالي فظروفنا تشبه ظروفهم في المرحلة السابقة إبان اندلاع الحروب الضارية بين المذاهب المسيحية. فقد دمرتهم العصبيات الطائفية في القرنين السادس عشر والسابع عشر قبل أن تدمرهم العصبيات القومية في القرنين التاسع عشر والعشرين. على أي حال فنحن نعاني أيضا من حروب أهلية مرعبة وظروف مضطربة إلى أقصى الحدود. ومع ذلك فلا أحد ينتحر عندنا لحسن الحظ. ربما نحروك أو حاولوا نحرك مرارا وتكرارا، ولكن أنت لا تنتحر من تلقاء ذاتك. على أي حال، كنت قد أحببت مؤلفات هذا الكاتب النمساوي الكبير، وبالأخص عن نيتشه وهولدرلين ودوستويفسكي وكلايست وبقية العصابيين الذين يصارعون التنين على مدار الساعة. انظر كتابه الرائع: «الصراع مع الشيطان الداخلي». لقد هاله أن تنتحر أوروبا الحضارية وتسقط في جحيم الوحشية البربرية مرة أخرى. كيف انتكست أوروبا بعد أن بلغت قمة التقدم فهشمت نفسها بنفسها؟ هل يعقل أن يحصل الارتداد من العصر الحضاري إلى العصر الحجري؟ هذا ما لم يستطع زفايغ تحمله فانتحر هو وزوجته في البرازيل عام 1942، ولو أنه صبر قليلا لشهد لحظة الانفراج الكبير 1944. ولكن هناك فرق أساسي آخر بيننا وبينهم، وهو أن أوروبا انتحرت حتى بعد أن شهدت التنوير العلمي الفلسفي، وبلغت الذروة في سلم الحضارات. وبالتالي فهي غير معذورة على الإطلاق، على عكسنا نحن. أكاد أقول نحن معذورون إذا ما انتحرنا وفتكنا بأنفسنا فتكا ذريعا، لأننا لا نزال متخلفين لا تنوير ولا من يحزنون. قد يقول قائل: ولكن أوروبا لم تنتحر هذه المرة لأسباب طائفية أو مذهبية، وإنما لأسباب عنصرية وعنجهيات قومية. وهذا صحيح. فالصراع بين القومية الفرنسية والقومية الألمانية كان قد بلغ آنذاك مبلغه. وبالتالي فالتطرف القومي لا يقل خطورة عن التطرف الديني. كلاهما مدعاة للحروب والمجازر. لو أن ستيفان زفايغ عاش وشهد تشكل الاتحاد الأوروبي لتأسف كثيرا على انتحاره، ولربما اعتذر اعتذارا شديدا وخجل من حاله. فالاتحاد الأوروبي يمثل أكبر معجزة سياسية في عصرنا الراهن. كيف يمكن لأمم مختلفة قوميا ولغويا، بل ومتصارعة على مدار التاريخ، أن تجتمع مع بعضها البعض وتشكل كيانا سياسيا واحدا؟ شيء يدوخ العقول. لكي ندرك خطورة الأمر وعظمته يكفي أن نتخيل السيناريو التالي: بعد خمسين سنة قررت الأمة العربية والأمة الفارسية والأمة التركية والأمة الكردية، أن تشكل اتحادا ضخما يضمها كلها متجاوزة بذلك خلافاتها القومية وصراعاتها التاريخية. من يصدق ذلك؟ بل من يستطيع أن يتخيل أن الأمة العربية وحدها فقط ستتوحد مع ذاتها وتلملم كل أطرافها؟ من يستطيع أن يتخيل هذا السيناريو الهائل والرائع الآن؟ ومع ذلك فهذا ما يحصل في أوروبا أمام أعيننا اليوم. ولكنها أوروبا الفلسفية، أوروبا الحضارية: أي أوروبا التي أتيح لها الوقت الكافي لكي تصفي حساباتها التاريخية مع ذاتها وتتخفف من رواسبها الماضوية واحتقاناتها المكبوتة وتراكماتها التراثية. ألحّ على هذا المصطلح الأخير «تصفية الحسابات التاريخية» وأعتبره مفتاحا أساسيا لفهم ما يحصل في العالم العربي والإسلامي اليوم. لذلك أقول بأن المرحلة التفكيكية تسبق المرحلة التركيبية وتشكل لحظة أساسية من لحظات التاريخ. ولا يمكن التوصل إلى الثانية قبل المرور بالأولى. وبالتالي يمكن القول بأننا دخلنا مرحلة تفكيكية - بل وتحريرية! - لم يسبق لها مثيل. إني أفهم هلع الناس وخوفهم منها. ولكنها ليست نهاية التاريخ أيها السادة، وإنما بدايته. إنها بداية صيرورة عظيمة سوف تؤدي بكم إلى التوحيد لاحقا، ولكن على أسس سليمة وحضارية هذه المرة.. فلا تخافوا ولا تحزنوا وإن كان الثمن المدفوع باهظا:

تريدين لقيانَ المعالي رخيصة

ولا بد دون الشهد من إبر النحل