«ناسا» تحتاج إلى التعلم من نظيرتها الهندية

TT

ما الذي يمكن أن يستفيده برنامج الولايات المتحدة الفضائي من نظيره الهندي؟ ليس الكثير، إذا كان المعيار هو إنجازات الفضاء الخارجي، فإن سجل الهند المتواضع يتضمن في الغالب إنجازات حققتها الولايات المتحدة منذ عقود مضت. ولكن إذا كان المعيار هو تملك رؤية واضحة عمّا ترغب في تحقيقه – وتحقيق ذلك بشكل سريع واقتصادي - فربما يكون هنالك درس أو اثنان.

علينا أن نتأمل الخطاب الذي أدلى به رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي الأسبوع الماضي، في أعقاب نجاح البرنامج الفضائي الهندي في إطلاق خمسة أقمار صناعية لدول غاية في الثراء بواسطة صاروخ من تصميم هندي. ففيه تصدى مودي للنقد الذي يتهم برنامج الهند الفضائي بالإسراف في الوقت الذي يكافح فيه المواطنون من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية، حيث عرض مودي رؤية موجزة عن أسباب أهمية عمليات الإطلاق على النحو التالي: «يخطئ البعض في فهم أن تكنولوجيا الفضاء لا تكون إلا للصفوة من الناس. وأنها لا علاقة لها بالإنسان البسيط العادي. ولكنني أؤمن بأن هذه التكنولوجيا ترتبط بصورة جوهرية بالإنسان العادي. فهي تعتبر عاملا يؤدي إلى التغيير، حيث يمكنها أن تحول مجرى حياة هذا الإنسان».

وفي إشارة مودي للفضاء قال: «إنها تقود الاتصالات الحديثة، وتربط الأسر النائية ببقية الناس. وتمكن الطفل الذي يقطن قرية بعيدة من الوصول إلى التعليم الجيد من خلال التعلم عن بعد. وتضمن رعاية صحية عالية المستوى للأشخاص الأكثر بعدا عبر التطبيب. وتمكن الشباب الذين يسكنون مدنا صغيرة من الحصول على العديد من فرص العمل الجديدة».

إن هذه الكلمات طموحة للغاية، ولكن ما يهم هو إلى أي مدى يتوافق هذا الخطاب مع الرؤية الأساسية لمنظمة البحوث الفضائية الهندية، التي أنشأت عام 1969. فعبر الموقع الالكتروني لمنظمة البحوث الفضائية الهندية (النظير الهندي لوكالة ناسا)، نُقل عن الفيزيائي فيكرام سارابهاي الذي يعد مؤسس البرنامج الفضائي، أنه رفض فكرة أن الهند يجب أن تنافس الدول الغنية المتقدمة من أجل استكشاف القمر والكواكب، ولكن أوضح أن الغرض من البرنامج الهندي الفضائي هو «تطبيق التكنولوجيا المتقدمة لحل المشكلات الحقيقية التي تواجه الإنسان والمجتمع».

ومن المثير أن ذلك يخالف الأولويات الغامضة للبرنامج الفضائي للولايات المتحدة، منذ نهاية برنامج هبوط مركبة «أبولو» على سطح القمر قبل ما يزيد عن 40 عاما. حيث مهد المكوك الفضائي للرئيس رتشارد نيكسون، الطريق أمام رؤى متجددة عن الهبوط على سطح القمر تحت فترتي رئاسة بوش، ومن بعده الرئيس باراك أوباما، إذ أُحبطت خطط العودة إلى القمر، ووضع هدف طويل الأجل للوصول إلى المريخ عبر سلسلة من الخطوات تبدأ بهبوط مناف للعقل على كويكب ما.

وفي الوقت نفسه، يبدو أن لجان الخبراء تقدم بانتظام رؤى للاستكشاف، يجرى تجاهلها لعدم وجود توافق سياسي. (ومن الجدير بالذكر أن الكونغرس الهندي أكثر اختلالا من نظيره في الولايات المتحدة، ولكنه يظل متوافقا على أهدافه الفضائية).

وللتأكيد فإن برنامج الفضاء الأميركي أنجز الكثير في السنوات الخمسين الماضية، على الرغم من أولوياته المتقلبة والمتغيرة. ولكن عدم وجود الأساس المنطقي الوطني لاستكشاف الفضاء، أسفر عن أن وكالة ناسا أصبحت تفتقر إلى اتجاه واضح، وتقيدها بيروقراطية عتيقة تجعلها غير قادرة على إنفاق تمويل الوكالة الضخم بطريقة مرضية.

وعلى النقيض من ذلك، حققت منظمة البحوث الفضائية الهندية أهدافها المتواضعة، من خلال ميزانيتها المنخفضة وتطلعاتها التي اقترنت برؤية واقعية معتمدة على النتائج. (يذكر أن ميزانية البرنامج الهندي تصل إلى ما يقرب من مليار دولار، أي حوالي 6 في المائة من ميزانية وكالة ناسا). وأطلقت منظمة البحوث الفضائية الهندية أقمار اتصالات صناعية وأقمارا لرصد الكرة الأرضية على متن صواريخ صممت وبنيت على أيد هندية (التي تخدم الآن العملاء التجاريين)، مما يعود بالنفع على «الرجل العادي» كما قال مودي، بالإضافة إلى توليد الأرباح.

بدأ صناع القرار والعلماء الهنود في مجال الفضاء النظر بشكل متواضع إلى ما وراء المدار الأرضي. ففي عام 2008، أطلقوا شاندرايان 1، وهو مسبار قمري، حيث ركز وفقا لرؤية سارابهاي على تطوير التكنولوجيا. وبطموح أكبر أطلق الهنود في عام 2013 صاروخا إلى المريخ وعلى متنه مركبة «مانجاليان» التي إذا نجحت ستسمح للهند بتجاوز الصين في أن تصبح أول دولة آسيوية تزور كوكب المريخ.

وما يجعل مهمة المريخ مقنعة لهذا الحد، وبصرف النظر عن منشئها، هو تكلفتها التي قدرت بحوالي 75 مليون دولار، أي «أقل من تكلفة فيلم الجاذبية الذي انتج في هوليوود»، كما أشار مودي يوم الاثنين. فضلا عن ذلك، استغرق المهندسون ما لا يزيد عن 18 شهرا لتصميم المركبة وإحضارها إلى منصة الإطلاق. والسؤال هنا كيف قام الهنود بذلك؟ الإجابة هي أنهم استفادوا من جهود اعتمدت على تكنولوجيا بسيطة نسبيا، وتعلموا من إخفاقات ونجاحات البعثات التي سبقتها، فضلا عن التكلفة المنخفضة نسبيا المرتبطة بتوظيف مهندسين هنود على مستوى عال.

ولكن ربما كانت أكبر ميزة هي التغاضي عن المخاطر، وهو ببساطة ما لم يحدث في برنامج الفضاء الأميركي، الذي أطلق مسباره المتوجه إلى المريخ بتكلفة بلغت 671 مليون دولار، عقب أيام من إطلاق الهند. واتخذ الهنود بدلا من اعتماد الطرق التقليدية لبناء نماذج متعددة (بما في ذلك قطع الغيار) طريقا مباشرا، وقاموا ببناء المسبار النهائي مباشرة، متجاوزين الخطوات الأخرى المكلفة والتي تستغرق وقتا طويلا (ولكنها تتلافى المخاطر). يبدو الأمر حتى الآن وكأنه مغامرة لا بأس بها. ولكن حتى وإن أخفق المسبار، بإمكان الهنود زعم أنهم على الأقل حققوا بعضا من أهدافهم التقنية بتكلفة زهيدة نسبيا.

وإنني أتساءل: هل يمكن أن تقوم وكالة ناسا بمجازفة مماثلة؟ إن الأمر قد يتطلب تحولا ثقافيا كبيرا في مؤسسة تقوم بأشياء مثل بناء نظام صواريخ يكلف عدة مليارات من الدولارات. وبالمثل، فإن الإسراع بالتنمية والحد من التكلفة مثل الهنود، قد يكونان مقبولين في إطلاق بعثات روبوتية، ولكنهما لن يكونا مقبولا بهذه البساطة عندما يتعلق الأمر ببعثات فضائية يقوم بها بشر حيث تكون حياتهم معرضة للخطر.

وستظل وكالة «ناسا» في المستقبل المنظور رائدة الفضاء في العالم، سواء من الناحية التكنولوجية أو التمويلية. ولكن صعود الهند كدولة تضع ميزانية لارتياد الفضاء، يشير إلى أن الولايات المتحدة قد لا تظل الأكثر تصميما أو طموحا. بالتأكيد لا يمكن لوكالة «ناسا» أن تصبح مثل نظيرتها الهندية أو وربما لا ينبغي لها ذلك. ولكن بالتأكيد تستطيع أن تأخذ الإلهام من استعداد الهند للذهاب إلى حيث لم يذهب أي بلد آسيوي.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»