زيف الثورات العربية

TT

قبل ثلاثة أعوام، ظهرت عاصفة على سطح السياسة العربية، بداية من الجمهورية التونسية التي لا تزال تقبع تحت بركان مصطنع نتيجة لتجاذب القوى السياسية التي تأثرت بتيارات الأحزاب السياسية من خارج المنطقة، في إطار صراع خفي نتج عنه فقاعة الربيع العربي تحت تأثير السياسات الغربية ومنتدى قوى الشرق. صراع يعيد ذكريات نمو الشعور القومي العربي والثورات العسكرية والحرب الباردة! والسؤال الذي يمكن طرحه في إطار استقصاء نتائج الحركات التي ظهرت في سرادق الربيع العربي.

هل الأحداث الحالية هي إرهاصات لنتاج فشل فكر ثقافة القومية العربية في احتواء الأقليات؟

وما يجعلني - أو حدا بي للتطرق إلى مثل هذا التحليل هو رؤية ظهرت من خلال القفز على حواجز التاريخ والتمعن في مقولة أن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه، كما أن النظرة الأولى للمسح الأولي للأحداث تثير الريبة في إطار منظور الخلايا النائمة؛ وإلا فكيف يمكن أن نقيم خمسين عاما من حكم ثوار العرب، لم تستطع تلك الأنظمة احتواء الأقليات في شعارات الوحدة العربية، من خلال تحويل فكرة الوحدة العربية الإقليمية إلى فكرة استظلال لمنهج وأسلوب للحكم؛ في حين استطاع العرب الخارجون من الجاهلية إلى الإيمان بإسلامية العروبة، وتحت ظل عدم التفريق بين أبناء الأقاليم، الوصول إلى حدود جبال البرنيس بإسبانيا وآسيا الوسطى، وزرعوا الإيمان بقدراتهم على الإقناع بوحدة الهدف والحكم لأكثر من ألف عام، ومؤشر القناعة يظهر في موروث الثقافات التي أصبحت مزارات ينظر إليها بالاستعجاب، كما لا تزال الأحرف العربية وسيلة التواصل لكثير من تلك القوميات؛ فهل كان ذلك البدوي راعي الشياه أكثر حصافة من أبنائه المتشبعين بالثقافات الثورية التي استنسخت من المسارات السياسية التي انتهت بفشل ذريع وتفكك إقليمي، أنعش الفكر الطائفي في دول الاستقلال من الاتحاد السوفياتي. ولاستطلاع التحليل المبدئي لاستنباط مسببات تلك الأحداث في إطار السياسات الاجتماعية تثير جدلا في طرح السؤال الثاني: هل تلك الأحداث نتاج لرد فعل قوى اجتماعية مركزية؟

كيف يمكن لابن الفرات أن يمحو انتماءه الاجتماعي من ثورة ثقافية سياسية، رغم أنها لم تستطع أن تتواءم مع جارها البعثي المولود من ذات المخاض الحزبي، ويرتمي في أحضان طائفية تنزع منه عروبته تحت فكرة التشيع ضد أبناء جنسه، ولأكثر من ذلك الانسلاخ من المنظور القبلي، وفي المقابل تصل درجة التضحية بالقيادات الإيرانية لأن تضحي بما لديها من النخبة العسكرية في سبيل القيادات العربية التي سلخت عنها العباءة العربية لتلبس الجبة الإيرانية؛ نقاط سبق أن حذر منها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني من خلال توقعه ظهور الهلال الشيعي ليفصل بين القوة السنية في الشمال تركيا والأكراد.

إن الرؤية الإيرانية توافقت مع الأطماع الإسرائيلية وتسارع الاثنان في كبح جماح تعريب الإسلام (.....) إلى الأسلمة العربية تحت إطار التبشير الشيعي. في إطار الرؤية الإيرانية التي تلبست أسلمة العروبة وذهبت إلى حد الترابط مع أحزاب «الإخوان» (الارتباط مع المنظور السياسي لحزب الإخوان) ومن خلال تلك التوجهات - استطاعت إيران تمرير الملف النووي واستقطاب أصحاب الفكر العدائي للغرب تحت عدو عدوي صديقي، رغم التباعد الفكري بين المنظور الفارسي وأحزاب «الإخوان».

واستكمالا لما سبق، يأتي سؤال محير: كيف استطاع التيار الشيعي المسيس (الإيراني) قراءة رد فعل القوى الاجتماعية المركزية واحتواءه بحيث يتاح لزعماء العروبة سلخ جلدتهم وقتل عشرات الألوف من أبناء الإقليم في ضمان مرور وظهور الهلال الشيعي. والمتتبع للمنهج الإيراني يستطيع قراءة التوجهات الإيرانية لفرسنة المذهب الشيعي، وقد يذهبون إلى فرسنة إسلامية المذهب، وهذا التحرك ظهر في بداية التسعينات بعد اتفاقية الطائف، حيث رمت إيران بكامل ثقلها من أجل إعادة الدور الذي فقدته بعد ثورة الفقيه.

ولقد تمكنت المخططات الإيرانية مع نهاية حرب الخليج الثانية وسقوط نظام البعث العراقي تحت غطاء المقاومة العربية لإسرائيل من وضع موقع على الإطلالة الشرق أوسطية للبحر الأبيض المتوسط، مرورا بسوريا وظهور الثورة العلوية الفارسية بلباس العباءة العربية، كما أن إيران استطاعت نشر ثقافة تسييس المذهب الشيعي بقيادات عربية تأثروا بالثقافة الفارسية.

إن المتمعن في الإطار الذي قامت عليه الثورات الاجتماعية، في طريق الإصلاح السياسي وتأصيل الحراك الديمقراطي، يلحظ آثار المخاوف بين الأقطاب السياسية في المنطقة، استطاعت إيران استثمار واستقطاب تلك التوجهات لخدمة تسييس المذهب الشيعي كمدخل للاستعمار وبناء قاعدة لخدمة مصالحها؛ وتحت غياب التنسيق السياسي العربي تمكنت من استحداث الطابور الخامس تحت مظلة عسكرة حزب الله اللبناني، بل وذهبت إلى فرسنة التشيع اللبناني.

إن الأطماع الإيرانية ليست مقروءة بشكل يمكن معه استنباط الخطوات المتوقعة من أصحاب القرار السياسي في إيران الذين يدركون أن التركيبة القبلية والنهج الثقافي في المنطقة لن يسمحا بالفرسنة تحت غطاء تأجيج الشعور الطائفي، لذا نهجت إلى ملء الفراغ السياسي لفشل الحكومات التي ظهرت تحت غطاء القومية العربية.

قراءة يجب فيها أن نعود إلى التاريخ الحديث لما سمي الثورات العربية وكيف انكفأت وأصبحت تأتي من الصدأ السياسي (نظام التعليم، الصحة، البنى التحتية) الذي مكن ضباع السياسة من أن يلتهموا نمور الثورات العربية.

إن التحليل الأولي للأطماع العالمية التي تهدف إلى إسقاط الثقافة العربية جاء في إطار تأجيج المنهج الطائفي للهروب إلى الأمام في سبيل سلخ الوحدة الإقليمية للعراق، واستنساخ التهديد الذي نادى به البعث الشيعي، حيث أظهرت المسرحية الانتخابية هزل القاعدة الشعبية للأنظمة الحاكمة في كل من سوريا والعراق، ولم تستطع فرسنة الشيعة العرب استقطاب قادة المذهب العرب، بل وظهرت مقاومة قوية ضد هذا الاتجاه، الأمر الذي حدا بالنظام الحاكم في سوريا إلى إطلاق سراح المعتقلين وتسليحهم، وبهذا يحقق النظام السوري الأهداف التي هدد بها بتصدير الفوضى إلى دول الجوار، فلم تعد ميليشيات الأحزاب المقاتلة مع قواته تستطيع الاستمرار بذات الاندفاع نتيجة للخسائر الكبيرة، كما أن الحكومة الإيرانية الجديدة لم تعد تتحمل الاستمرار في الدعم نتيجة للخسائر المادية والبشرية التي منيت بها؛ كما أن القناعة الجديدة لدى إيران بقبول الحد الأدنى بفرسنة إقليم عربستان والشيعة العرب في العراق محققة بذلك تفكيك العراق كقوة عربية موحدة وخلق منفذ مباشر لها على المنطقة العربية، الأمر الذي يتوافق مع الأطماع الصهيونية، فكان لا بد من زج «داعش» لإثبات الرؤية التي سوق لها النظام السوري والإيراني في رد فعل للتقارب السياسي بين جمهورية مصر العربية ودول الخليج العربي.

والسؤال الأخير من جزأين: أين ذهب نمور الثورات، وكيف فشلوا في خلق قاعدة للدفاع عن تلك الحركات التي سيطرت على الفكر والثقافة العربية؟

إن الواقع العربي الإسلامي المعتدل، أثبت أن الاعتدال الفكري يمكن أن يعيد ترميم اللحمة الثقافية للمنطقة من خلال صيانة النظام التعليمي والصحي، وإيجاد قنوات اقتصادية لاستيعاب النمو الديموغرافي من خلال قنوات ربط بين نتاج الأنظمة التعليمية والأوعية الاقتصادية أثبت أن النمور للثورات العربية تقمصوا رداء من ورق، ولم يحيطوا أنفسهم بقاعدة شعبية يمكن أن تكون لهم خط دفاع؛ وظهرت حقيقة تلك النمور بأنهم من ورق، وبقي الأصل من الشعوب التي تسعى إلى عودة اللحمة العربية، حيث أظهر التقارب بين السياسة الخليجية في دعم استقرار مصر في الصف العربي، ليكون درعا لاستمرار التكافل العربي ضد الأطماع الإيرانية والإسرائيلية. وهنا، أشير إلى نتاج قوة القاعدة الاجتماعية بسلاح منظور ثقافة الاعتدال لحماية التوازن الاجتماعي والاستقرار.

* عضو مجلس الشورى السعودي