خلافة «داعش»

TT

يمثل النجاح المذهل الذي حققته «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في الأسابيع الأخيرة في إقامة «الدولة» بجميع أنحاء شمال غربي العراق وشمال شرقي سوريا، نقطة تحول استراتيجي في الوقت الذي يستمر فيه المقاتلون الجهاديون وآيديولوجيتهم الراديكالية في السيطرة على تلك المنطقة من الشرق الأوسط. ومن الناحية السياسية، يصعب وصف «داعش» بأنها ظاهرة عابرة، غير أن إعلانهم الخلافة يؤسس لحدود آيديولوجية جديدة.

وكان تهديد الخلافة تجاه الغرب يتمركز حول خطاب جورج بوش الابن المستعر في حربه العالمية على الإرهاب، وجاء ذريعة لتبرير شن الكثير من الحروب في «جهاده» الخاص على مدى العقد المقبل، ولكن ما درجة الخوف التي يشكلها مثل ذلك المفهوم بالنسبة لنا؟

يرجع منصب الخليفة إلى وفاة النبي محمد في عام (632 ميلادية). وتحتاج الدولة المسلمة الوليدة إلى قائد جديد ليعمل على توفير التوجيه السياسي والإرشاد الروحي للمجتمع الجديد (وتعني لفظة الخليفة «التابع» في اللغة العربية)، وظل ذلك المنصب مشغولا بصورة مستمرة زادت أو نقصت منذ ذلك الحين، وخصوصا كمنصب روحي يضفي الشرعية على القادة السياسيين الذين استحوذوا، أو اعتلوا سدة الحكم العلماني في العالم المسلم.

وبالنسبة للغربيين، تعد البابوية نظيرا مفيدا، رغم أنها مقاربة غير دقيقة. وقد تمتع البابا كثيرا بممارسة سلطة علمانية كبيرة في أوروبا، وكثيرا أيضا ما أساء استخدامها. ورغم حالات التدني أو الفساد الفردية التي عانى منها بعض الباباوات، تلقى المنصب احتراما كبيرا كرمز لوحدة العالم المسيحي الغربي. وكذلك كان الأمر بالنسبة للخلافة في العالم المسلم، معبرة عن المثل العليا – التي يتطلع الجميع إليها – لوحدة المسلمين والحكم الرشيد، مع نظام يخضع لحكم القانون والعدالة الاجتماعية. والتطلع إلى الحكم الرشيد في ظل إطار ثقافي إسلامي لا يزال يلمع كبصيص أمل في عيون الكثير من المسلمين باعتباره مثالا بعيد المنال.

أصاب الزعيم التركي الثوري الجديد مصطفى كمال أتاتورك، الذي أسس الدولة التركية الحديثة في عام 1923 على أنقاض ركام الإمبراطورية العثمانية التي قاربت على 700 سنة، المسلمين في جميع أنحاء العالم بصدمة حينما ألغى الخلافة. وكان المنصب قد استمر، عقب كل شيء، لعدة مئات من السنين في إسطنبول. يبدو الأمر وكأن رئيس وزراء إيطاليا قد استيقظ يوما لإلغاء البابوية كمؤسسة باقية طوال الدهر ومثير للجدل كذلك.

ماذا بوسع كاثوليك العالم أن يقولوا حيال أمر كهذا؟ ليست البابوية ملكا لإيطاليا حتى تلغيها، ولما تكن الخلافة كذلك ملكا لتركيا حتى تزيلها. لا يزال الكثير من المسلمين يشعرون بالحنين إلى منصب قوي ورمزي يجتمعون حوله. وبغيابه، من يتحدث عالميا الآن باسم الإسلام والأمة – المجتمع المسلم العالمي؟ ناهيك بأن مسلمي العالم اليوم ليس من المرجح موافقتهم على استعادة المنصب المفقود: أين، وكيف، وعلى يد من، وكيفية اختياره، وبأي سلطات، وما الموقف الدولي؟ لكن المصطلح ذاته لا يزال يستدعي أمجاد التاريخ الإسلامي التواق للوحدة – مثلما لا يزال الكثير من المسيحيين يتوقون لمثال على المسيحية الموحدة. وبينما لا يزال الكاثوليك يحتفظون بالبابا، يفتقر المسلمون اليوم إلى الشخصية الإسلامية المركزية الذي يمكنها التحدث باسم السلطة الحقيقية للإسلام – حتى الإسلام السني – باسم مصالح المجتمع المسلم العالمي.

والخلافة مثل البابوية، يمكن أن تكون جيدة أو سيئة بحسب الشخصية التي تترأسها، حيث مر كلا المنصبين خلال التاريخ بالكثير من اللحظات العصيبة بحق، مثلها مثل شخصيات القيادات السياسية أو الفكرية أو الأخلاقية الحقيقية. واليوم، يوجد رجال الدين الموقرون هنا وهناك، غير أن الكثير من المسلمين يفتقدون السلطة الموحدة من واقع الضعف وقلة الرؤية الإسلامية في العالم الإسلامي.

في عصر تكررت فيه غزوات الغرب للعالم الإسلامي، والإطاحة بقياداتهم، والاستيلاء على المصادر الاقتصادية والطاقة لديهم، وظل الضعف وعدم وجود القيادة في العالم الإسلامي عاملا مهما وباعثا على القلق لدى المسلمين. وبالتالي، حينما استثير مصطلح «الخلافة»، لمس وترا مؤثرا في الحساسيات التاريخية للكثيرين، حتى لو لم يكن لديهم مصلحة فعلية في إعادة تأسيس المنصب الشاغر، لأنه يشير إلى وجود الدولة ذات التوجيه الواعي والقيم الإسلامية الهادفة، ومع ذلك يظل ذلك المفهوم محل جدل كبير.

في الوقت الذي دمرت فيه القوة العسكرية الأميركية الكثير من أفغانستان والعراق في حرب مدمرة وفاشلة، وفي الوقت الذي لا تزال فيه سوريا في مرمى الأسلحة الغربية من خلال صراع مدني حرض عليه الكثيرون من الغرباء، تعلو موجة المشاعر الراديكالية المتطرفة في العالم المسلم اليوم. وليس من المستغرب أن المشاعر والتصريحات الراديكالية الجهادية ينبغي أن تبدو مرة أخرى تتماشى في اتجاه الدولة الإسلامية الموحدة. والحقيقة أن رؤية أولئك المتطرفين مع العنف المروع لديهم تصيب الكثير من المسلمين في العالم بالصدمة كذلك. وفي أعقاب دمار العقد الماضي، فإن رد الفعل العنيف ليس مستغربا تماما مع ذلك. ولدينا هنا تنظيم «داعش» الذي لا يعبر عن الوجه الحقيقي للخلافة، بأكثر ما كانت تمثله محاكم التفتيش الكاثوليكية في إسبانيا أو ما يمثله مقتل السكان الأصليين في أميركا ذات الاستعمال الإسباني والذي يعبر عن الوجه الحقيقي للبابوية. وكلاهما مآله الإدانة.

ليس من المرجح استمرار ظاهرة «داعش» كدولة لفترة طويلة، غير أن صدى الإعلان الرمزي عن الخلافة يبقى مؤشرا حول مدى الانجراف الذي شهدته المثالية الإسلامية. سوف يرفض معظم المسلمين خلافة «داعش» باعتبارها مؤسسة قاسية، ومتعصبة، وبدائية كما هو حالها، غير أن الأوقات الراديكالية تجلب معها ردود فعل راديكالية.

* خدمة: «غلوبل بوينت»