عودة دولة الخلافة؟!

TT

أعلنت منظمة «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش) عن إلغاء اسمها المعروف، واستبدال اسم «الدولة الإسلامية» به، وباتت ممثلة للخلافة الإسلامية في العصر الحالي تحت قيادة «أمير المؤمنين» أبو بكر البغدادي. وهكذا بعد ما يقرب من 90 عاما منذ سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، عادت دولة الخلافة مرة أخرى وهي في أحضان تنظيم إرهابي دولي، وهو ما لم يسبق إليه تنظيم آخر من نفس النوعية. صحيح أن كثرة من المنظمات الراديكالية أعطت «الإمارة» لأنواع مختلفة من أمراء الجماعات، وفي بعض الأحيان هبطت إمارة المؤمنين على جماعة طالبان الأفغانية التي كانت في وقت من الأوقات تهيمن على 90 في المائة من أرض أفغانستان، ولكنّ أحدا لم يسبق «داعش» إلى فكرة الخلافة، ولا إمارة المؤمنين على أرض بعينها ممتدة من إدلب العراقية إلى حلب السورية، ولا حتى إعلان خريطة الدولة وهي ممتدة من «إمارة الكنانة» - مصر - إلى «إمارة خراسان» المعروفة بإيران الآن. الفكرة ليست جديدة تماما، فقد كان هناك من يحلم بها منذ تفككت الإمبراطورية العثمانية ودفنت بعد قرن أو أكثر من التخلف والتراجع عن ركب التقدم العالمي. فلم يمض وقت طويل حتى تصورت عروش في المنطقة أنها يمكنها أن تحل محل الخلافة الزائلة، وسرعان ما بدأ حسن البنا يدعو إلى الفكرة منذ عام 1928، ومن بعده تلقفت تنظيمات وحركات وجماعات القضية وراحت تستخدمها في الكفاح والنضال! العجيب أن هذه العملية من السعي نحو الخلافة تركت تحت أقدامها مئات الألوف من القتلى والجرحى من المسلمين يشكلون نحو 95 في المائة ممن أضيروا في «الجهاد». العجيب أن ما تبقى 5 في المائة كانت كافية لكي تجلب عداء العالم أجمع، وشكه في المسلمين والعرب على وجه التحديد.

«داعش» سابقا، و«دولة الخلافة» حاليا، شكلت سابقة كبيرة بغزوها لهذه الفكرة، ولكنها فيما يبدو لن يكون لها نصيب إلا من السقوط والانهيار، ربما قبل مضي وقت طويل. الدولة المدعاة رغم حصولها على كثير من الأموال وموارد السلاح واندفاع جماعات تريد القتل والترويع وكفى، محاصرة تماما من جميع الاتجاهات. فهي لا تواجه فقط بقية الدولة العراقية بجيشها وميليشياتها الشيعية في وسط العراق وجنوبه، وإنما تواجه الدولة الكردية الجديدة في الشمال والشرق التي بعد استيلائها على كركوك على وشك عقد استفتاء لإعلان الدولة. في الغرب توجد الدولة الأردنية ودولة بشار الأسد السورية التي حصلت على الكثير من الدعم بعضه من دول، وبعضه الآخر من المعارضة نفسها حيث لم يكن يحلم الرئيس السوري أن تدخل جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة في حرب مع تنظيم «داعش» الذي كان جزءا منها في فترة سابقة. ويبدو أنه إذا كان لا يفل الحديد إلا الحديد، فإنه لن يقضي على تنظيم إرهابي إلا تنظيم إرهابي آخر. ولكن «داعش» أو دولة الخلافة الجديدة لن تكون في مواجهة الجيران المباشرين فقط، ولكن سوف يكون عليها مقاومة تجمع كل الرافضين للإرهاب والإجرام في المنطقة وما وراءها.

لكن توازن القوى، والجغرافيا السياسية، ليسا فقط هما من يحكم على دولة الخلافة التي شكلتها «داعش» بالإخفاق، ولكن المنظمة نفسها تحمل بين طياتها كل عوامل إخفاقها. والحقيقة أنه لم يحدث من قبل أو من بعد أن نجحت جماعة من هذه الجماعات في الحكم، سواء كانت في أقصى درجات التطرف أو في أدناها. هل نتذكر كيف تناوبت هذه الجماعات على أفغانستان فتوالت الإمارات حتى سقطت طالبان بعد أن استدعت الغزو الأميركي؟ ورغم عدم إعلان الإمارة في مصر، فإن جماعة الإخوان لم يمضِ عليها عام في الحكم إلا وسقطت هي الأخرى. وأسباب السقوط كثيرة، أولها أن هناك أحلاما بعضها في اليقظة وبعضها الآخر في المنام حول امتداد حدود القوة إلى السماء السابعة، وبعدها تكون اليقظة ومعها الخراب والانهيار. وثانيها أن هناك الكثير من الاستهانة بالخصوم، وحينما تجتمع الاستهانة مع التشكيك في إيمان المؤمنين، وإسلام المسلمين، فإن الضربة عندما تأتي تكون موجعة، وفي أحيان قاصمة. وثالثها أن هناك فارقا بين الحروب الإرهابية القائمة على الترويع وبث الخوف ونشر القتل وتشويه الجثث ومشاهد الحرق، والحروب النظامية التي ما إن تبدأ حتى تجد هذه الجماعات نفسها منكشفة أمام الضربات الجوية وأشكال مختلفة من تكنولوجيا التعقب والاستشعار والمراقبة من الفضاء بالأقمار الصناعية، ومن الأجواء بالطائرات الاستطلاعية من دون طيار. ورابعها، وربما أهمها على الإطلاق، أن أيا من جماعات الخوارج «الجهادية» لا يعرف شيئا عن الحكم، وبالتأكيد ليس بنفس القدر من معرفة القتل، فما إن يصبح في مقعد الإمارة أو الخلافة، فإنه لا يعرف كيف يعبئ موارد بشر وأرض ورأسمال. المشروع كله لا يقوم حتى في الفروع أو الهوامش على التنمية من أي نوع، فهو لا يكتفي بوضع النساء في المنازل وإبعادهن عن التعليم، ولكنه أيضا يعيد «صب» الرجال في قوالب خائفة لا تعرف قدرة على الاختيارواتخاذ القرار، لأن عليهم السير في الركب والسمع والطاعة. وخامسها أن دولة الجماعة سواء كانت «الإخوان» أو «طالبان» أو «القاعدة» أو «داعش»، وأيا كان موقعها على منحنى التطرف والغلو، فإنها سوف تستبعد الأقليات الدينية والعرقية. كل ذلك وسادسها أنها بلا برنامج اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي للتطور أو التغيير أو التنمية، وفيما عدا تقصير الثياب، والاكتفاء بالقشور الدينية، فإنه لا يوجد بعده شيء على الإطلاق.

كل ما لدينا من هذه الجماعات يبدو غريبا في الملبس والمأكل والتوجهات، ليس علينا فقط وإنما على العالم أجمع، فمشهدهم في حالة غربة عن القرن الواحد والعشرين. وحتى عندما يستخدمون بعضا من تكنولوجياته مثل عربات الدفع الرباعي، فإنهم يظهرون كقوة غاشمة قادمة من العصور الوسطى وأزمان بربرية أخرى. وفي وقت من الأوقات أظنه في عام 1968 كتب جمال الغيطاني «أوراق شاب عاش من ألف عام» صور فيها بشاعة العصر المملوكي في مصر، وربما آن الأوان لتصوير آخر لهؤلاء الذين عاشوا منذ آلاف الأعوام، أو هبطوا من كواكب أخرى حاملين معهم الدمار والخراب. وسواء كانت الجماعة الإرهابية اسمها «داعش» أو «الدولة الإسلامية»، فإنها سوف تظل جماعة إرهابية، وربما كان ما نحتاج إليه كعرب ومسلمين، هو أن نعمل معا من أجل انتهاء عصر الإرهاب والرعب، فقد طال زمانه أكثر مما ينبغي.