ماذا عن «داعش» الكبرى؟!

TT

وأخيرا كسروا حاجز الصمت، وخرجوا من «داعش» الكبرى لينتقدوا «داعش» الصغرى، على طريقة الخلاف في الفروع الفقهية، وليس محاولة إنقاذ الإسلام من هذا التحريف والتشويه الذي لم يصل إليه لا الخوارج القدماء، ولا جماعات التكفير والهجرة قبل عقود، حيث كانت رغم راديكاليتها النظرية المفرطة أقل عنفا مما يفعله موتورو «داعش» الذين يعرفون جيدا أن هذه الأصوات لن تؤثر على الكوادر والأتباع، لأنها تناقش التفاصيل الصغيرة وهي تنزيل الأحكام الشرعية على واقع داعش مع الاتفاق في الأصول: «الخلافة»، «تكفير الدول والأنظمة الحالية»، أولوية قتال المرتد القريب على العدو البعيد، وبالتالي لن تسقط متوالية التطرف أو يهدم معبد الإرهاب على أصحابه، بل سيتم الخلاف على تفاصيل التوقيت والجهة المستهدفة وهو ما يعني حرص القيادات الفكرية للتيارات المتطرفة التي نقدت داعش من الإسلام السياسي للحركي للإخواني للسروري على بقاء شرعيتها بنقد شرعية «داعش»، ولو عبر سلاح التكفير، باعتبارهم خوارج دمهم حلال أو بغاة أو قد افتأتوا على إعلان الخلافة من طرف واحد وليس خروجا على الواقع الجديد وهو «الدولة القطرية»، وليس أقل مهزلة من ردة الفعل الكارثية مثل فرح بعض الإعلاميين المحسوبين على الإسلام السياسي بتلك التصريحات لشخصيات سعودية وخليجية وجهادية عالمية بتلك التصريحات، باعتبارها جزءا من مواجهة داعش، بينما هي في الحقيقة انتصار للذات وخوف من الانحسار واختطاف شرعية «القتال» في مناطق التوتر؛ فإعلان الخلافة من قبيل البغدادي وضعهم في مأزق أمام الانضمام تحت لواء أمير المؤمنين أو نقض بيعته وقد اختاروا الثانية، ولم يختاروا كما يصوّر «المبررون» العودة إلى الخيار السلمي كل المطالبات المنسوبة للسعد والطريفي والعلوان.. الخ القائمة المعروفة طالبت بالتحاكم إلى محكمة شرعية تفصل بين الفصائل الجهادية استنادا إلى رؤية الشيخ الظواهري!

داعش الصغرى رغم نجاحاتها غير المسبوقة في تاريخ العنف المسلح «الجهاد» الحديث على مستوى الاستقطاب والتجنيد والتمويل (يكفي أنها أول تجربة جهادية تتجه للتمويل الذاتي) غير باقية ولن تتمدد، فهي بالكثير تملك مقومات العيش البدائي بحده الأدنى وعبر شكلانية الدولة (بيوت ومدارس محال تجارية تحول إلى محاكم شرعية ومراكز لوزارات داعش)، إلا أن الأخطر هو بقاء وتمدد «داعش الكبرى» الفكرة التي تستوطن الآن عقول كثير من الأجيال الجديدة المبهورة بالصورة والرمزية والأيقونات التي تبعثها داعش الصغرى بامتياز، ألم يخجل ويثير غيرة العلماء الشرعيين اختطاف داعش لأيقونة «ختم النبوة» واختيار كل رمزيات العصر الأول من الألوان للأزياء لمسميات الخدمات والوزارات، ثم اختيار رموز «إرهابية» لأسماء الوحدات والمدارس، وهو ما يعني أن قوة داعش هو في تمددها الفكري وليس العسكري، فالأخير كشف عن هشاشة الوضع الأمني في مناطق التوتر كالعراق وسوريا واليمن أكثر مما عكس قوة ميليشيا متطرفة تقدر بـ12 ألف مقاتل.

السؤال الحقيقي هو ماذا سنصنع بإرث داعش في السنوات الطويلة المقبلة، ونحن قد اكتوينا بتجربة لا تقارن بسلبياتها وآثارها على المجتمعات (تجربة الجهاد الأفغاني) الذي كان معقلا بتدخل الحكومات والمشايخ الشرعيين قبل الانفصال الكبير حين انتقلت القاعدة إلى الجهاد الأممي ثم العالمية، قبل الانهيار الكبير لجماعات العنف وتفريخ نماذج أكثر تطرفا أنتجها واقع جديد ما زلنا لا نحسن قراءته نبحث عن سؤال «من، ولماذا» في حين أن السؤال الحقيقي هو: «كيف» نواجه داعش الكبرى بأجيال وعائلات وأبناء وأقارب من قتلوا هناك، أو من اعتقلوا أو عادوا ومعهم تبعات تجربة عنفية على هذا المستوى (ثمة صورة تذكارية لثلاثة مقاتلين من داعش دون العشرين وخلفهم تظهر ثلاثة رؤوس مزروعة على أوتاد سور يقفون أمامه)، ولنتذكر أننا منذ الثمانينات وإلى ما قبل 11 سبتمبر، كنا نعاني عميقا من ملف «العائدين من أفغانستان».

أعلم جيدا أن صيرورة الأحداث تتجه نحو الحسم متى ما شكلت «داعش» خطرا إقليميا، لكن الأطراف المستفيدة من داعش لم تقرر بعد لحظة الحسم والتصعيد، باعتبار أن سلوك الجماعة أقوى مبرر لبقاء حكومة المالكي (على الرغم من رفض مجلس العشائر مبايعة البغدادي) ونظام الأسد الذي على الأقل كفته «داعش» كل الميليشيات الجهادية التي لم تنضم إليه حين حكم عليها بالمروق من بيعة أمير المؤمنين، بينما ينشغل العالم الغربي بأخبار داعش على طريقة الترفيه (Entertainment) فينشغلون بتحديد ماركة ساعة أمير المؤمنين والتوثيق للحياة في مجتمع داعش واقتناص غرائب الصور والتسجيلات تاركين لنا التفكير في حجم الخراب بعد رحيل داعش الصغرى، وتمدد وبقاء داعش الكبرى.

[email protected]