«المتروقراطية» المصرية

TT

غضب المصريون كثيرا من تصريحات بعض المسؤولين السابقين التي أشاروا فيها إلى أن مصر غير جاهزة للديمقراطية. ومع انطلاق شرارة الثورة بدأ الحديث عن الديمقراطية في مصر يتخذ منحى جديدا بدا أكثر جدية وأكثر جاذبية. وبدا واضحا أن ثمة طلبا متزايدا على الديمقراطية مع قَصْرها على الجانب الإجرائي، لا سيما ذلك الإجراء المتعلق بصندوق الانتخابات. ومن ثم لم يكن مفاجئا أن يتحول صندوق الانتخابات من أداة إلى ما يشبه «البقرة المقدسة». كما لم يكن مفاجئا أن تسود نغمة أن لا صوت يعلو في مصر فوق صوت الصندوق. فبدت مصر وأحلام شعبها رهينة لدى ذلك الصندوق. باختصار حبس الصندوق الديمقراطية كما حبس كثيرا من العقول في مصر. وقد تمت ترجمة ذلك الطلب على الديمقراطية أو على الأقل الاستدلال عليه من الإقبال غير المسبوق على كافة الاستحقاقات التي شهدتها مصر خلال السنوات الثلاث الماضية، التي فاق معدلها المعدلات الموجودة في أي دولة أخرى، حيث تعرض المصريون لاستحقاق انتخابي كل ستة أشهر تقريبا دون أن تشهد نسبة الإقبال في الاستحقاقات التالية تزايدا ملحوظا على الاستحقاقات التي سبقتها خلال السنوات الثلاث الماضية، والأهم أن الأمر توقف عند حدود المشاركة الانتخابية.

ورغم تزايد عدد الأحزاب الذي وصل لما يزيد على 90 حزبا، فإن نسبة مشاركة المصريين في تلك الأحزاب لم تتحسن ولم تكسر حاجز الخمسة في المائة بعد، ولم تنعكس الديمقراطية في أي من مناحي الحياة الأخرى. بعبارة أخرى فإن حصاد الأعوام الثلاثة الماضية على مستوى الديمقراطية يبدو غير مرض بالمرة. ومن ثم يصبح السؤال المنطقي والواجب هو: لماذا حدث ذلك؟ مؤكد أن لذلك أسبابا كثيرة. ومؤكد أنه ليس من بين تلك الأسباب عدم ترحيب المصريين بالديمقراطية أو عدم تقديرهم لأهميتها. ولكن الحقيقة أن ذلك الحصاد يتوافق تماما مع طبيعة المصريين وثقافتهم العامة. كيف ذلك؟

دعونا نبدأ بطرح السؤال التالي: أيهما أكثر تعبيرا عن ثقافة المصريين ونظرتهم إلى الديمقراطية وطريقة تعاملهم مع الانتخابات، مترو الأنفاق أم أتوبيس النقل العام. المؤكد أن أتوبيس النقل العام هو الأكثر تعبيرا عن ثقافة المصريين بينما مترو الأنفاق هو الأكثر تعبيرا عن نظرة المصريين إلى الديمقراطية وطريقة تعاملهم مع الانتخابات. ذلك أن أتوبيس النقل العام بحالته الراهنة لا يدفع ولا يغري والأهم لا يلزم المصريين عند استخدامه بتغيير سلوكهم. فالأتوبيس تعبير واقعي وصادق عن الحالة العامة للمواطن والوطن. هو جزء من الشارع المكتظ وغير النظيف والمزعج بالضوضاء التي تنبعث من كل حدب وصوب. هو تعبير عن الشارع حيث لا قانون يحترم، وحيث يمكنك أن تفعل فيه كل ما تشاء تقريبا. وكما أن المواطن الذي يركب الأتوبيس ويأتي من السلوكيات ما يأتيه بقية الركاب، ظنا منه أنه من دون تلك السلوكيات لن يستطيع الاستمرار في استخدام الأتوبيس دون تحمل تكلفة عالية، هو نفس المواطن الذي حال انتقاله ليستخدم مترو الأنفاق تتغير سلوكياته بنسبة كبيرة للغاية، ويخلع ثقافة الأتوبيس ويبدأ في استخدام ثقافة المترو، حيث المكان أكثر نظافة من الأتوبيس، وحيث لا يمكن مخالفة القانون بسهولة رغم أن المترو يعاني أيضا من الازدحام. ولكن المترو يمثل في المخيلة المصرية شيئا مختلفا وفريدا، فتم التعامل معه باعتباره «أجنبيا» أو مستوردا يجب الحفاظ عليه وإلا فالقانون موجود. وأصبح استخدام المترو في التنقل لا ينتقص من مكانة مستخدميه. بل إن أبناء الطبقة الوسطى والعليا باتوا يفاخرون بأنهم يستخدمون المترو، رغم أنه وسيلة نقل عام تماما، كما فاخر الكثيرون بوقوفهم في الطابور والتصويت في الانتخابات.

تعامل المصريين مع المترو بهذا المعني هو نفس تعامل المصريين مع الانتخابات خاصة منذ عام 2011؛ إذ وجدوها شيئا جديدا ومختلفا ومنظما وهي بطبيعة الحال موسمية. ومن ثم فلا بأس من التعامل معها كما يتعاملون مع المترو. إقبال شديد والتزام بالقوانين ومفاخرة بالمشاركة فيها. ولعله ليس من الصدفة أن يكون إقبال النساء والأكبر سنا هو الأكثر مقارنة بالآخرين تماما كما يحدث في المترو. الإقبال على الانتخابات كما هو الحال في المترو هو إقبال من كافة الطبقات، الدنيا والوسطى والعليا. سلوك المصريين رغم الانتخابات العديدة التي شاركوا فيها لم يتغير خارج نطاق لجنة الانتخابات أو بعد انتهاء العملية الانتخابية تماما كما لم يتغير سلوكهم حال خروجهم من المترو. إذن يتعامل المصريون مع المترو باعتباره شيئا مختلفا كما ينظرون إلى الانتخابات باعتبارها شيئا مختلفا واستثنائيا يمكن تحمل مشقة التعامل معه، حتى يخرج من المترو أو حتى تنفض الانتخابات وتعود الأمور إلى سابق عهدها. وكما أننا لم ننجح بعد في تعميم ثقافة المترو على الأتوبيس وكافة وسائل النقل العام، يبدو واضحا أننا لم ننجح أيضا في تعميم ثقافة المشاركة في الانتخابات بما فيها من إيجابية وحرص على ممارسة واحدة من مفردات العملية الديمقراطية على نمط حياتنا بشكل عام. وبالتأكيد فإنه يوم تسود ثقافة المترو في المجتمع سيكون من السهل أو بالأحرى من الطبيعي تسيد ثقافة المشاركة في الانتخابات والديمقراطية عامة على نمط وإدارة حياة المصريين. فالمصريون يقدرون أهمية الديمقراطية كما يقدرون أهمية النقل العام في مصر، ولكنهم على ما يبدو ما زالوا غير قادرين على تغيير ثقافة التعامل مع المجال العام التي تجعله مستباحا حتى يبدو للناظر وكأن المصريين لا يرغبون في وجود النقل العام، تماما كما يبدو للبعض أنهم لا يرغبون في الديمقراطية. وكلا الأمرين غير صحيح. باختصار الموجود الآن في مصر هو «متروقراطية» ينبغي أن تتحول إلى ديمقراطية.

* خبير في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية