حكاية البقرتين

TT

نكتة قديمة انتشرت في الستينات، ويعاد تدويرها على «فيسبوك» الآن: ماذا تفعل إذا ورثت بقرتين؟

العبارة المضحكة «punch - line» من تعامل ثقافة المكان مع الثروة الهابطة.

في الهند (حيث إن البقر مقدس) ستعتني بهما وتنفق عليهما حتى يخرب بيتك؛ في النظام الاشتراكي تعيّن الدولة ستة موظفين لإدارة توزيع الحليب بالتساوي: ملء ملعقة لكل مواطن؛ في نظام رأسمالي تقليدي: تبيع إحدى البقرتين وتشتري بالثمن ثورا، وفي سنوات قليلة تصبح صاحب مزرعة للحليب واللحوم.

تذكرت النكتة في قراءتي لاجتهادات المثقفين المصريين لإصلاح أحوال البلد.

مجموعة، أغلبها من مثقفي اليسار، تناشد الرئيس السيسي أن «يسترد أموال مصر من رجال الأعمال والمستثمرين الذين استفادوا من تسهيلات نظام مبارك على حساب الشعب».

ومجموعة أخرى تدعم نداءات التبرع، وتطالب الرئيس بإعادة تنظيم الدعم (ليس بإلغائه كظاهرة اقتصادية ضررها أكثر من نفعها) لأن الدعم بشكله الحالي يستفيد منه الأغنياء والفقراء على حد سواء.

التيار نفسه يطالب الرئيس بأن الحل لظاهرة الاستغلال (وقائمة «المستغلين» أطول من مساحة هذا العمود) هو تملك الدولة لأدوات الاستغلال (وسائل النقل للقضاء على استغلال سائقي التاكسي والميكروباص الجشعين، والسوبر ماركت، والمخابز، والقضاء على التجار المخالفين للتسعيرة).

نداءات للرئيس (وليس تقديم مقترحات عملية) تعني إعادة بعث صورة الزعيم القائد الملهم وتحويل المشكلات إلى مكتبه في الأذهان، بينما يكلف الدعاة أنفسهم عناء التفكير في الثمن الاقتصادي للنداءات.

حتى لو قبلنا بمركزية النظام الرئاسي أو الدولة المركزية التي بعد (باستثناء الفترة البرلمانية 1922 - 1954) وهو يناقض الديمقراطية التعددية الحزبية، فالمناقشات الدائرة لم تأخذ الواقع في الاعتبار.

مثلا إعادة تنظيم دعم السلع الاستهلاكية الأساسية.. قد يبدو الأمر أكثر عدلا بقصر الدعم على المستهلك الفقير وحرمان الغني منه.. عندما نوقشت قضية مماثلة (منحة إعانة الطفل للأسر البريطانية) في مجلس العموم، قبل عامين، اتضح أن تصنيف الناس لفقراء وأغنياء لحرمان الفئة الثانية لصالح الأولى من الإعانة تستلزم إنشاء جهاز بيروقراطي لوضع هذا التصنيف موضع التطبيق وميزانية جديدة من مئات الملايين لا سبيل لتمويلها إلا بفرض ضرائب جديدة وهو ما لا يقبله الناخب.

والحكمة نفسها تنطبق على مصر، فالسبيل الوحيدة ستكون نظام الكوبونات أو دفاتر التموين التي أصدرت أثناء الحرب العالمية الثانية، واستمرت لسنوات بعدها، وهذا يتطلب جهازا بيروقراطيا ويفتح باب الفساد على مصراعيه (عندما كان عدد سكان مصر 20 مليونا حسب التعداد الرسمي، بلغ عدد المصريين المدونين في بطاقات التموين 29 مليونا، والفارق في كمية السلع المدعومة يجد طريقه للسوق السوداء، مما رفع معدلات التضخم وكلف الخزانة إضافة لمرتبات العاملين مما عرف وقتها بغلاء المعيشة).

لم يقدم أصحاب الاقتراح أي أرقام عن تكلفة الخطوة للخزانة ومصادر التمويل؛ في حين مثلا أن اقتراحا بتعديل اللوائح الضريبية لرفع الحد الأدنى للإعفاء الضريبي (يفيد الفقراء) وتعديل النسبة التصاعدية للمستويات العليا (يستهدف الدخول والأرباح المرتفعة) - ولا يتطلب خلق طبقة بيروقراطية جديدة - الغريب، لم يقدم أحد من مثيري قضية إعادة توزيع الدعم هذه الاقتراح.. فقط نداءات بفرض أقصى حد من الضرائب على أصحاب الأعمال والمستثمرين والأثرياء. ولم يذكر أحد ماذا يحدث في أقل الحالات ضررا، إذا قرر المستثمرون مثلا تخفيض التشغيل الإنتاجي والاستثماري لأقل حد (لماذا يتعب رجل الأعمال نفسه بالعمل لتحقيق أرباح تصل النسبة التي سيهجم فيها عليه مفتش الضرائب لانتزاعها؟) وما يترتب عليها من ركود وإغلاق فرص العمل؛ أو في أكثر الحالات ضررا عندما يصيب الرعب المستثمر فينقل أمواله واستثماراته إلى خارج مصر ويخرب بيت العاملين عنده؟

كما لم يناقش أحد من المطالبين بتملك الدولة وسائل المواصلات والمتاجر كيفية التعامل مع نتيجتين مباشرتين.. الأولى زيادة البطالة بعد أن يفقد سائقو التاكسي والميكروباص وأصحاب المتاجر والعاملون فيها أعمالهم، هل سيتلقون إعانة البطالة هم والأسر التي يعولونها؟

الثانية تكلفة هذه الخطوة للخزانة والمستهلك.. من أين تأتي ميزانية نقص الموارد بعد فقدان الخزانة الدخل الضريبي من مرتبات العاملين الذين تركوا المتاجر؛ ومصادر وميزانية تعويض أصحاب الميكروباص والتاكسيات والمتاجر أثمانها والخسائر؟

أم تستولي الدولة عليها بلا مقابل؟

في هذه الحالة سيلجأ المتضررون للقضاء وتكون خسارة الخزانة مزدوجة: التعويضات لأصحاب الأعمال بجانب تكاليف المحامين لوزارة المالية لأنها ستخسر معظم هذه القضايا.

ملخص الحكاية يا سادة أن بعض المثقفين المصريين هم أنفسهم مأساة لطم بها الشعب المصري في صميم آماله. لا يزالون يفكرون بعقلية الدولة الستالينية التي أزهقت روح الاقتصاد السوفياتي وعجلت بوفاته. ولا يوجد اقتصاد ناجح اليوم يعتمد على الدعم، ولا يمكن التوصل لتنمية حقيقة (أي بتنمية ميزان الصادرات مقابل الواردات، وبالتالي زيادة سنوية في نصيب الفرد من الدخل القومي) إلا في نظام رأسمالي وحرية السوق. الصين آخر معاقل الشيوعية غير المفلسة (بعكس كوريا الشمالية) تعتمد نظام اقتصاد رأسمالي، وتستثمر في بريطانيا وأميركا (أكثر نموذجين اقترابا لحرية السوق المثالية).

السؤال الواقعي هل تظل البقرة الثانية «مقدسة» - في مصر هي إدارة الدولة للاقتصاد بالنموذج السوفياتي المعادي للمستثمر «الاستغلالي الجشع»، ويظل الجميع «موظفين» عند الدولة نصيب كل منهم ملعقة الحليب؟ أم تباع البقرة الثانية، أي العودة لنظام رأسمالية طلعت حرب باشا؟

هذا يتطلب تغيير المفهوم والعلاقة بين الدولة والحكومة في اختيار الديمقراطية البرلمانية النموذج أكثر تقدما من نظام الجمهورية المركزية؛ فالأولى الحكومة من وزراء منتخبين كنواب برلمان، أي سلطة الشعب تدير الجهاز التنفيذي؛ أما الجمهورية المركزية فتضع رئيس الدولة فوق الحكومة، والبرلمان كيان مواز، وأحيانا منافس.

مطالب بعض المثقفين.. موجهة لفرد واحد: الرئيس.. هل يمكن عمليا لرئيس دولة في حجم مصر حتى لو لديه الوقت والخبرة، معالجة تفاصيل «Micro management» سائقي التاكسيات والميكروباص؟ أم يعين لجانا متخصصة؟

الأخيرة اسمها حكومة من مجلس وزراء (الوزير منصب سياسي وليس إداريا) وفيها متخصصون.

كيف تختار الحكومة.. لم أعثر على اقتراح مصري واحد بالعودة للنظام البرلماني الذي ساد من 1922 – 1954، حيث ينتخب الشعب نواب برلمان الأغلبية فيه تشكل حكومة، لأن برامجها أعجبت الشعب وإذا فشلت في تحقيق البرنامج يفصلها الشعب من عملها، ويختار غيرها في الانتخابات التالية.