قميص غزة

TT

في تغريدة طريفة، ولكن حقيقية، كتب كاظم موسوي الباحث في حوزة «قم» بعد سقوط الموصل في يد «داعش»، أنه مغادر إلى طهران حتى تستقر الأوضاع. علق مواطن عراقي شيعي: كيف تغادرنا إلى طهران وتطلب منا أن نواجه العدو؟ فرد عليه موسوي: مشاغلنا هناك لأجلكم، وأنتم ثابروا واحموا مقدساتنا ولكم منا الدعاء! وبالمثل خرج رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل من الدوحة، على بعد أكثر من ألف ميل عن غزة، يهيب بأهلها الثبات والصمود، ويذكرهم بأن النصر صبر ساعة، وأنه معهم بقلبه ودعائه!

عبثا نكرر التذكير بمسؤولية حركة حماس التي تدير قطاع غزة، عن كل الفظائع الإنسانية التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلية، كونها تواجه عدوا جبارا بصدر مكشوف. كل قطاع غزة أرض مفتوحة لطائرات العدو الإسرائيلي، والنتيجة مؤكدة سلفا. مخازن ومنصات الصواريخ التي تطلقها التنظيمات موجودة داخل الأحياء السكنية، وبعض المخازن في المنازل داخل الغرف والأقبية التي تُحفر يدويا، وحركة تنقل نشطاء حماس بالسيارات داخل شوارع غزة يرصدها الإسرائيليون من مصادرهم في الداخل. كلها أهداف مكشوفة للطيران الإسرائيلي جعلت الأهالي في مرمى صواريخ تمزق الأطفال في الشوارع والبيوت أشلاء كأنهم خراف.

في الزمن الجميل، حينما كانت حماس حركة مقاومة، كانت مصدر قلق حقيقيا لإسرائيل، تنقض على عدوها من حيث لا يحتسب كأشباح الظلام، محدثة ضغطا داخليا على صناعة القرار الإسرائيلي. إنما من أوعز إليها ترك موقع المقاومة إلى مواقع العمل السياسي لم يرد بالقضية الفلسطينية خيرا. خالد مشعل الذي خاطب الغزاويين من الدوحة يطالبهم بالصمود، يعلم أنه لا خيار لهم سوى ما يسميه هو صمودا، وهو في حقيقته عجز، وغياب لأي خيار آخر.

سياسيا، اضطرت حماس لعقد مصالحة من تحت ضرسها مع غريمتها في السلطة الفلسطينية «فتح»، أكرهت عليها بسبب ما آلت إليه الأوضاع في مصر، وخروج جماعة الإخوان المسلمين من قصر الحكم، وخسارتهم لصديقهم بشار الأسد، وانشغال «حزب الله» عنهم في معاركه بسوريا والعراق. الحركة تريد إحراج مصر أيضا، كما أنها بحاجة إلى دعم شعبي عربي يعيد لـ«الإخوان» قليلا من وهجهم الذي فقدوه جراء خسائرهم السياسية المتلاحقة.

وأصحاب القرار في إسرائيل اليوم اثنان من أشرس وأعتى القادة؛ بنيامين نتنياهو وأفيغدور ليبرمان، يمارسان بلا رحمة إرهابا مقننا، بل ويتنافسان في التنكيل بغزة بهدف ملاحقة مطلقي القذائف، رغم ضعف تأثيرها. والقوى الغربية ترى أن قضايا مثل تحرير الأسرى ووقف الاستيطان يمكن معالجتها ضمن ملف المفاوضات، أما إطلاق صواريخ من غزة فهو تصعيد عسكري تُلام عليه حماس والجهاد الإسلامي، لذلك نسمع تعاطفا أميركيا وأوروبيا تجاه الموقف الإسرائيلي، مبررين الهجوم بالدفاع عن النفس. وفي هذا ظلم للفلسطينيين، لأن الحق لا يتجزأ، ولا يتشكل بحسب الرغبات. مع ذلك، فإن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة، فمن غير المعقول أن يقرر مشعل جر غزة إلى جرف هاوية، ثم يستنكر سقوطها. لقد بارك خطف الفتية الإسرائيليين الثلاثة، فارتكبت جريمة بشعة في حق الطفل محمد أبو خضير انتقاما من الخاطفين، ثم بادر بمحض إرادته بإطلاق القذائف تجاه المدن الإسرائيلية، والنتيجة كسر حاجز المائة قتيل في غزة.

حماس هذه المرة حققت تقدما نوعيا في مستوى سلاحها من مجرد قذائف تضرب مدن الجنوب القريبة، إلى صواريخ متوسطة المدى تصل إلى وسط تل أبيب والقدس. إنما بلا نتيجة تُذكر، بسبب القبة الحديدية التي تعترضها. ولا تستخدم حماس مخزونها النوعي بسخاء، لأنها، كما وصفها خالد مشعل، مقاومة «عاقلة» لا تختار التصعيد! لكنها أظهرت نفسها أكثر جرأة على الوصول إلى العمق، وجعلت إسرائيل تفقد صوابها وتضرب غزة بعنف، بحثا عن منصات الصواريخ تحت الأرض وفي الأنفاق.

وما زاد الطين بلة على ضحايا غزة هو هذا النفاق الإعلامي المكرر، والبكائيات المقيتة التي ما برحنا نسمعها في كل مرة تقرر فيها حماس التضحية بجزء من سكان غزة. قلما يقولون الحقيقة، فالشارع العربي لا يريد أن يسمع سوى شتم في إسرائيل، وهذا سهل، فنحن نشتمها منذ 60 عاما، إنما الجانب المهم أن دماء أهالي غزة باتت ورقة لعب في يد نتنياهو وخالد مشعل.

آه! كم أكلوا على مائدة القضية الفلسطينية!

في موقع «تويتر» يسخر العرب من صورة للجنود الإسرائيليين وهم منبطحون على الأرض، خلال عبور صاروخ، رغم أنه سلوك طبيعي، ويضحكون وهم يسمعون عن مسارعة الإسرائيليين للاحتماء بالملاجئ، في حين تدك الغارات الإسرائيلية منازل الفلسطينيين فوق رؤوسهم، ويموتون تحت الركام منبطحين ونائمين وجالسين. يهزأون من أخبار تفويت القبة الحديدية لصواريخ القسام، وهم لا يعلمون أن هذه القبة مشروع استراتيجي بذلت فيه الحكومة كل نفيس لتطوره عاما بعد عام، وهي اليوم تصطاد أكثر من 85 في المائة من صواريخ غزة، والعدد قابل للزيادة. دعوا الأرقام تتحدث، لتوضح لنا كم عدد القتلى والجرحى في كلا الجانبين، لئلا يخرج علينا أحدهم غدا ليعلن نصرا إلهيا على جثث أطفال غزة.

من سوء حظ الفلسطينيين أن طرفي المعركة اليوم من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني هم من الراديكاليين، يضغطون باتجاه الإبقاء على الحالة الفلسطينية كما هي؛ استيطان يتوسع يوما تلو الآخر، وحملات اعتقال واسعة وصلت بعد مقتل الإسرائيليين الثلاثة إلى أكثر من 800 معتقل، لتظل هذه القضايا ذريعة لتعطيل المفاوضات، مما يعني أن حديث السلام أضحى تراتيل شاعر، كلام حالم لا مكان له في الواقع الصعب، وبات على أهل غزة القبول بالموت، ليحيا السياسيون في النعيم.

[email protected]