بغار عليك

TT

الأغنية قديمة غنتها المطربة العراقية عفيفة إسكندر، غير أنك لو بحثت عنها الآن لن تجدها في أعمالها، بل ستجد مطربة أخرى تغنيها وهي إنصاف منير.. يا لجمال الصوت وجمال الأنثى، ويا لجمال كلمات الأغنية وجنونها. الأغنية هي «بغار عليك»، وبالتأكيد كل محب يشعر بالغيرة على حبيبته، تلك الغيرة التي تصل إلى إزهاق روحها في حالات كثيرة، لكن المحب هنا يقدم لنا صنوفا وألوانا من الغيرة لم يسبقه إليها شاعر غنائي في كل لغات الأرض، بما يجعل من السهل علينا نقله من خانة المبالغة الشعرية، ثم وضعه في خانة التطرف.. استمع إليه:

«بغار عليك.. بغار عليك.. من النسمة إن مرت نحوك.. من إيديك، من عينيك.. من المية إن لمست شفتيك»..

لو صدقنا هذا الخيال الشعري لكنا أمام حالة حب مرضية تشكل خطرا حقيقيا على الحبيبة، فهذا محب مجنون على استعداد لحرمانها من التنفس وحتى من الشرب وكأنه يريد أن يقتلها عطشا. ويواصل قذائفه الشعرية فيقول في صورة لم يسبقه إليها خيال شاعر: «بغار من الجمرة اللي في خدك، إن لمست يدك تكويها». فخداها ليسا دافئين فقط، أو حتى ساخنين، بل هما جمرتان من النار وكأنهما قطعتا فحم مشتعلتان، المحب هنا يخشى أن تلمس الحبيبة خديها بيديها فتحرق كفيها.. لا بد من الاعتراف بجمال هذه الصورة. لكنه بعدها يعود لتطرفه فيقول: «كل لحظة باقول لك كل ثانية، بغار عليك.. من عينيك لتشوف التانية بغار عليك». غير أنه يحاول بعد ذلك أن يقدم تحليلا موضوعيا لغيرته فيقول: «بغار من البسمة الحيرانة على ثغرك تكوي عزالك»، وهذه هي المرة الثانية التي يذكر فيها حكاية الكي هذه، والواقع أن حكاية الكي هذه موجودة بكثرة في تراث الأغنية المصرية، ومنها «كاوياني ويا كاويني»، لكن ماذا يهمه في أن يُكوى أو يكتوي عزالها؟.. وهنا يكمل: «وقلوبهم تصبح ولهانة وتتخيل في الحب أماني».. آه، هذه هي المسألة إذن.. هو يخشى أن هذه البسمة الحائرة على شفتيها لا تكويهم فقط لكنها تشعل في قلوبهم الرغبة، وتنعش أمانيهم في الوصول إليها، فهي يجب ألا تبتسم أمام الآخرين حتى لا يظنوا أنها سهلة المنال.

لم ينته المحب بعد من تعداد الأشياء التي تشعره بالغيرة، وهى أكثر من كثيرة، لذلك سنراه ينتقل إلى الإجمال: «كيف ما رُحتي وكيف ما جيتي، بغار عليك.. وإن سكتي وإن حكيتي، بغار عليك». بعد ذلك يترك الخارج، أقصد كل ما هو خارج جسم الحبيبة، ليقفز داخل أعماق نفسها: «بغار عليك من أفكارك، فكرة تخالف التانية.. فكرة تكشف، فكرة تداري، تتوسع كل فكرة في ناحية».

يا له من وصف جميل للقلق الناتج عن تضارب الأفكار وتصارعها داخل الإنسان، فهو لا يريد لحبيبته أن تتعرض لهذا الصراع النفسي.

ثم ينتقل في النهاية إلى الحديث عن نفسه فيقول: «لما تسرح بي أحلامي، بغار عليك.. لما تحاورني أوهامي، بغار عليك».

رمضان كريم كل سنة وأنت طيب.

[email protected]