«قيس الأميركي» يظهر في المنامة!

TT

من المصطلحات التي تعرفها العلاقات الدبلوماسية بين الدول، مصطلح اسمه «شخص غير مرغوب فيه» وهو، كما ترى، تعبير مهذب للغاية، رغم أنه، في مضمونه، يحمل حين يتم إطلاقه، إزاء شخص محدد، معنى في غاية القوة.

فما مناسبة هذا الكلام؟! مناسبته، أن وزارة الخارجية في البحرين، أعلنت الثلاثاء الماضي، أن توماس مالينوفيسكي، مساعد وزير الخارجية الأميركي، لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان، شخص غير مرغوب فيه، وأن عليه، وفق ما هو مفهوم من هذا المصطلح عالميا، أن يغادر المنامة، عاصمة البحرين، بأسرع وقت ممكن.

والحقيقة أنني قرأت الخبر المنشور في صدر صحيفتنا هذه، صباح الثلاثاء، مرتين، ثم عدت إليه، وإلى تفاصيله، مرة ثالثة، لسببين، أولهما أني كنت، في كل مرة أقرأه فيها، أشعر بإعجاب تجاه حكومة البحرين، أمام خطوة شجاعة من هذا النوع، وثانيهما أني كنت أريد أن أعرف، ثم يعرف معي بالضرورة قارئ هذه السطور، شيئا عما ارتكبه مساعد الوزير الأميركي، بما جعل الحكومة البحرينية تضيق به ذرعا، وبوجوده بينها، وإلى الدرجة التي ما عادت معها تحتمل بقاءه على أرضها ثلاثة أيام، فأعلنته شخصا غير مرغوب فيه.

مساعد الوزير الأميركي، كان قد وصل المنامة، صباح الأحد قبل الماضي كما يقول الخبر، وكان من المفترض أن يبقى للأربعاء، غير أن حكومة البحرين أعلنت يوم الاثنين ما معناه، أن عليه أن يسارع بالمغادرة، وألا يبقى إلى آخر زيارته المقررة!

وسوف تفهم من ثنايا الخبر، أن مالينوفيسكي قد جاء، لا ليطلب نارا، على طريقة قيس مع ليلي في شعرنا العربي القديم، وإنما جاء ليشعل البيت نارا، وأنه جاء تحت اسم عريض وبراق، من الديمقراطية وحقوق الإنسان، في حين أن الهدف الذي سرعان ما تبين للحكومة في أرض البحرين، أنه هو الهدف الحقيقي من مجيئه، لا علاقة له بالديمقراطية، كعملية، ولا بحقوق إنسان، كمبادئ، اللهم إلا إذا كان معنى الديمقراطية، ومعنى حقوق الإنسان، عند الأميركان، قد تحول من السعي لبناء الدول، إلى هدمها، فوق رؤوس مواطنيها!

كان البيان الصادر عن الخارجية البحرينية، مهذبا لأبعد حد، حين قال إن تصرفات مساعد الوزير الأميركي، تتعارض مع الأعراف الدبلوماسية، ثم تخلى البيان عن تهذيبه قليلا، وكان لا بد أن يتخلي، ليصف لقاءات الرجل في البحرين، مع جماعات من المعارضة، بما يجب أن توصف به، وكيف أنها قد قسمت شعب البلد هناك، إلى قسمين، أو أنها سعت على الأقل إلى إحداث ذلك في أمد بعيد.

ولا بد أن المتابع للشأن السياسي البحريني، سوف يخمن أن مالينوفيسكي، قد التقى مع أفراد في جماعة «الوفاق» المعارضة في البحرين، وهي جماعة كما نعرف، تقدم بكل أسف، مصلحة إيران، السياسية، على مصلحة بلادها في الشاطئ الغربي من الخليج العربي!

إذ لا أحد ضد أن تعارض «الوفاق» نظام الحكم في البحرين، كما تحب، ولا أحد فيما أتصور، ضد أن تطلب هذه الجماعة ما تشاء من إصلاحات، من نظامها الحاكم، بشرط أن يكون ذلك كله، على أرضية وطنية مجردة، تراعي مصالح الدولة البحرينية العليا، وتلتزمها في كل خطوة، وتدرك أن ولاء أي بحريني، أيا كان توجهه السياسي، إنما هو للبحرين وحدها كدولة، لا لكيان آخر غيرها بأي حال.

وهنا، أظن أن علينا أن نتوقف أمام شيئين، وألا يغيب أيهما عن بالنا، في أي لحظة.

الشيء الأول، أن المتأمل لتفاصيل الخبر، سوف يقرأ بين سطوره، أن تصرفات مساعد وزير الخارجية الأميركي، لم تقف عند حد اللقاء العادي مع جماعة معارضة هناك، دون حضور مندوب من الحكومة، كما هو معتاد، وإلا ما اقتضى الأمر إبلاغه، صراحة، بأنه شخص غير مرغوب فيه، وإنما الواضح، من لهجة بيان الخارجية، أن الرجل قال كلاما في لقائه إياه، لا يصب أبدا في صالح البحرين، ولا في صالح أمنها، ولا استقرارها، وهو في الحقيقة اجتراء منه على الدولة في المنامة، وانتهاك لسيادتها يصل إلى حد لا يمكن قبوله تحت أي ظرف.

وأما الشيء الثاني، فهو أن الإدارة الأميركية تصدِّع رؤوسنا، في كل ساعة، بكلام عن أمن الخليج، وعن التزامها بمقتضياته، فإذا بها عند كل اختبار لكلامها، تسقط فيه بامتياز، وإذا بها، من خلال تصرفات رجالها على الأرض، تدوس على أبسط قواعد الدبلوماسية، وتبعث بمن يفعل ذلك، ويمارسه، على أرض البحرين ذاتها، لا خارجها فقط!

تعرف واشنطن، مدى أطماع طهران المُعلنة في أرض البحرين، وهي أطماع تأتي معلنة تارة، ومخفية تارة أخرى، وتعرف واشنطن أيضا، أن البحرين دولة ذات سيادة، وأن دول مجلس التعاون الخليجي جميعها، تقف وراءها بقوة، ضد أي أطماع في أرضها، بل إن أي عربي لن يرضى بأن تمس إيران شبرا من أرض البحرين، وتعرف واشنطن، للمرة الثالثة، أن عليها إذا كانت تريد أن تلتزم بأمن الخليج حقا، أن تقف علانية، ضد العبث الإيراني الذي لا يكاد يختفي في المنطقة عموما، وفي الخليج خصوصا، حتى يعود ليظهر من جديد!

تتصرف الولايات المتحدة، معنا، بوجهين، كل واحد منهما مناقض للآخر، ثم يدهشك أن يخرج أميركان فيها، ليتساءلوا من فترة لأخرى: لماذا يكرهوننا؟!

فمتى يدرك الأميركان، أن الأحرار في العالم، وليس في أرض العرب وحدها، يكرهونهم لأسباب موضوعية، وليس من فراغ.. يكرهونهم كراهية مجردة، لا تدعو إلى أي عنف طبعا، لأنهم يقولون الشيء، ويفعلون عكسه، ولأنهم في حالة البحرين - مثلا - يلتزمون أمنها، في العلن، ثم يبعثون بواحد من رجالهم، تحت اسم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ليعمل بكل ما هو ضد استقرار المملكة البحرينية، متصورا أن أحدا لا يراه، ولا يرصده، ولا يرقبه!

وإذا كانت السفارة الأميركية في البحرين قد قالت إن رجل الديمقراطية وحقوق الإنسان حضر إفطارا مفتوحا مع «الوفاق»، وإن طرده لا يعبر عن روح الشراكة بين البلدين، فهو كلام إنشائي بلا معني، فضلا عن أنه لا يحترم عقولنا.