تاريخ بالفلفل والشطة!

TT

مسلسلان يثيران في عالمنا العربي العديد من التساؤلات حول الوثيقة التاريخية وحدود الكاتب الدرامي في التغيير والإضافة وجنوح الخيال.

في مسلسل «سرايا عابدين» تجرى الأحداث في السرايا رغم أنها لم تكن في تلك السنوات قد أنشأت بعد، بل وكان إسماعيل لا يزال يحمل اسم الوالي قبل أن يُصبح «الخديوي»، ونستمع في الحوار إلى كلمات من أرشيف الشخصيات التركية في دراما «الأبيض والأسود» القديمة مثل «يوك» و«سيس» و«أمان ربي أمان» وبعد أن يتشبع المسلسل بهذا الأداء الكاريكاتوري، نلمح حوارا باللهجة العامية المصرية المستخدمة هذه الأيام، رغم أنه كان ينبغي أن نعود بالزمن أكثر من قرن ونصف قرن. الإشارة التي سبقت العمل الفني وتؤكد أنه خيال مبني على وقائع حقيقية، لا تمنحه حق العبث بقواعد التاريخ.

بينما مسلسل «صديق العمر» الذي يروي العلاقة بين الصديقين الرئيس عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر امتلأ بالعديد من المغالطات التاريخية، مما أغضب ورثة جمال عبد الناصر الذين عدّوا الأمر مقصودا لتشويه صورة الزعيم بعد أن أصبح أيقونة ثورتي «25 يناير» و«30 يونيو»؛ بل إن حماس قطاع وافر من المصريين للسيسي رئيسا تنامى بسبب حالة التماهي التي انتشرت في الشارع بين السيسي وناصر. لا أتصور بالمناسبة أن هناك شيئا مقصودا ولكنه، ربما، انحياز لا شعوري من صناع المسلسل إلى المشير، حيث إن ورثة عامر وحتى كتابة هذه السطور سعداء بإنصاف المشير دراميا. من الواضح أن كاتب السيناريو خضع، وبنسبة كبيرة في المعالجة، إلى الحكايات الشعبية المتداولة، ونحى جانبا الوثيقة التاريخية المعتمدة.. المصادر الدرامية التي استند إليها تنحاز إلى رؤية الممثلة برلنتي عبد الحميد، الزوجة الثانية للمشير التي وثقتها في كتابين جرى تداولهما في السنوات الأخيرة.

للتاريخ وجهان؛ الأول هو الوثيقة المعتمدة رسميا، وهناك الحكاية الشعبية، وبين هذه وتلك شهود العيان، وهم في العادة ينحازون لا شعوريا لمواقفهم حتى عند سرد الوقائع السلبية التي كانوا طرفا فيها، فإذا لم يتجاهلوها تماما، فسوف يعيدون صياغتها من باب التبرير والتماس الأعذار.

يقولون إن «التاريخ يكتبه المنتصرون».. جيلنا مثلا حفظ من الكتاب المدرسي أن عبد الناصر هو أول رئيس عرفته مصر، وبعد ذلك بدأنا نكتشف الحقيقة، وهى أن اللواء محمد نجيب أول مصري أعتلى الكرسي.. في ذلك الزمن كان من الممكن أن تخفي الوقائع لأن وسائل الإعلام كانت كلها تحت السيطرة، بالطبع هناك كُتب ووثائق وموجات إذاعية تأتي من خارج الحدود تنشر الوثيقة، ولكن في المقابل كانت الدولة قادرة على أن تضع أسوارا تحول دون تسريب ما لا تريد انتشاره.

كثير من الحكايات الشعبية غلفت علاقة الصداقة بين الرئيس والمشير، وهى الفعل مادة خصبة لإثارة المشاعر، حيث يختلط الخاص بالعام.. كل منهما أطلق على ابنه اسم صديق عمره، وكل منهما كان مخلصا في حب مصر؛ ولكن لا شك أن السبل قد تفرقت بهما، بينما رواة التاريخ انقسموا كالعادة على حسب أهوائهم.

ما الحقيقة.. هل انتحر المشير كما تقول الرواية الرسمية، أم قُتل بعد أن دسوا له السم في عصير الجوافة؟ لا أعتقد أن الدولة ستسمح بتداول ما يتناقض مع ما هو معلن رسميا وهو انتحار المشير.. ويبقى السؤال عن حدود الحرية، وهل ما نراه يخاصم التاريخ نتسامح معه لمجرد أنه خيال؟ هل يجوز لأحد أن يعبث بالتاريخ والجغرافيا من أجل تقديم مسلسل يجذب به الجمهور فيملؤه بوقائع وكأنه يضيف إليها الفلفل والشطة لتصبح «مشعوطة» و«سبايسي»؟!